صلاة الليل في القرآن والحديث بين المجتمع القديم والحديث (4)- الجزء الرابع والأخير
بعدما تحدّثنا في الأجزاء السابقة من المقالة عن الصلاة الواجبة عمومًا وأهميتها وحرمة تركها، وعرّفنا صلاة الليل وأكّدنا على استحبابها وعواقب تركها ودلالاته، ثم تحدّثنا عن خصوصية صلاة الليل ونظرة المجتمع الحديث إليها، وأوردنا بعض مصاديقها وشواهدها من القرآن والحديث الشريف عن النبي والأئمة الطاهرين عليهم أفضل الصلاة والسلام، وذلك في سبيل توضيح وترسيخ فكرة عمومية وسهولة صلاة الليل التي ظنّ ويظنّ البعض أنها مختصّةٌ بمن هو متفرّغٌ للعبادة أو التفقّه في الدين، وبعدما توسّعنا قليلًا في الأحاديث الشريفة المروية عن أهل البيت عليهم السلام، التي تحثّ على صلاة الليل واستحبابها المؤكد، كما أوضحنا أسباب وعوائق ترك صلاة الليل وعدم التوفيق لأدائها.
(وكالة كربلاء الدولية- العتبة الحسينية المقدسة)
كان لا بد لنا من أن نختم هذا البحث المهمّ، والمتعلّق بهذه العبادة الاستثنائية، بإيراد جملة أمورٍ لا يستغني عنها من كان راغبًا باستكمال سبل التقرّب إلى الله عزّ وجلّ عن طريقها، وبإيجاد بعض الحوافز التي يمكن أن تساعده على الالتزام بها واستجلاب منافعها النفسية والروحية، التي لا يستغني عنها المؤمن في أي زمانٍ كان.
خامسًا: محفّزات صلاة الليل:
إن أول وأهم المحفّزات لصلاة الليل، هو إدراك المرء لعظيم فضلها وتشوّقه لأدائها، ثم إن عليه أن يتمثّل جملة أمور، أوردها السيد غلام الرضا عرفانيان في كتابه "صلاة الليل" بتعابير دقيقةٍ وبليغة نقتطف منها ما يلي: "أن يتذكر العبد جميل صنع الله سبحانه عليه، وأنه ربه وسيده ومولاه ومنعمه، ... وأنه الذي دعاه إلى ذكره ومناجاته... وهو في غنى عنه، ... ولم يكلّفه إلا وسعًا ولم يجشّمه إلا يسرا... وأنه حين يصلي هذه الصلاة فهو يستقبل ساحة كبرياء الله تعالى، وأنه متعرّضٌ في الصلاة لنفحات أنسه ونسائم قدسه وأن القيام إليها من سيرة المقربين لا سيما الرسول الأعظم والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين... وأنه بالقيام إليها يبادر إلى غفران ذنوبه ويسارع إلى علاج نقائص أعماله... فحينئذٍ يحدث فيه شوقٌ أكيد لمراقبة وقت اليقظة ولمحافظته على القيام من الرقدة..."
فإذا توفرت للعبد كل المعارف السابقة، وزاد عليها بالوصول إلى عامل التشوّق لهذه العبادة، غدا من الأمور الطبيعية التلقائية أن يستيقظ لأداء هذا النشاط الروحي الفريد، ويشير أئمتنا إلى جملة أمور تعين المرء على التزود بما يكفيه لهذه الرحلة، رحلة الاستغفار في الأسحار:
أ- أن يقضي في النهار ما فاته من نوافل الليل، فعملية القضاء هذه تمهد للمرء حالة الاستحقاق لهذه المثوبة، فهو يحاول استدراك ما فاته، وبالتالي فهو جديرٌ بأن يكون مؤدّيا لها في وقتها...
ب- قلة الأكل في الليل ونوم القيلولة بالنهار واستيفاء النوم أول الليل، فمعلومٌ أن كثرة الأكل والبطنة تورث التثاقل والكسل، ونوم القيلولة يريح الجسم وينشطه، أما نوم أول الليل فهو يذهب النعاس، وكلها أمورٌ تصبّ في مصلحة القيام في وقتٍ متأخرٍ من الليل لأداء النافلة، بحيث تذهب الموانع التي يمكن أن تؤثر في نشاط الفرد وقيامه.
ت- عملية نية اليقظة والقصد إليها، ومن ذلك قول الإمام الباقر عليه السلام: "ما نوى عبدٌ أن يقوم أية ساعةٍ نوى فعلم الله تبارك وتعالى ذلك منه إلا وكل به ملكين يحرّكانه تلك الساعة"، وهذه العملية هي من المجربات عند الكثيرين.
ث- قراءة آخر آية من سورة الكهف قبل النوم، فهي أيضًا من المجربات للاستيقاظ في الوقت المحدد، وشاهدها قول الإمام الصادق عليه السلام: "ما من أحد يقرأ آخر الكهف حين ينام إلا استيقظ في الساعة التي يريد."
والمراد بآخر سورة الكهف هو قوله تعالى:
﴿قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾
مع كل هذه الاستعدادات، فإنه من غير المعقول أن لا يتمكن المرء من الانتباه لنافلة الليل، بقلبه وجسمه، فهو قد أخلص النية لربه وطلب منه أن يناجيه، وليس بين العبد وربه إلا دعوة مستجابة، وإن الله "إذا تقرب العبد إليه شبرا تقرب إليه ذراعا..."
لم يبق له إذًا إلا الشروع في التطبيق، وفي التعرف أكثر فأكثر على هذه الرابطة الوثيقة، من أفواه أولئك الأعزة المصطفين الذين خصنا الله جل ّوعلا بهم، ليوفوا لنا الكيل ويتصدّقوا علينا بعلمهم، عنيت الأئمة الميامين الغرر، أهل بيت سيد البشر عليه وعليهم السلام.
سادسا وأخيرا: القيام والاستغفار بالأسحار:
بعدما تبيّن لنا في المباحث السابقة، أهمية صلاة الليل والنصّ عليها في القرآن والحديث، وفوائدها النفسية والروحية، مع عدم اختصاصها بزمان النبي والأئمة عليهم السلام، فهي موافقةٌ لكل إنسانٍ ولكل زمان، وبعدما أوردنا كيفية السعي للتوفّق بالاستيقاظ في الوقت المحدّد، مع معرفة الخير العميم الذي تفيضه على الإنسان هذه الصلاة، بقي لنا أن نوضح أهمية الاستغفار فيها، حتى غدا وكأنه سرها المكنون، وركنها الوثيق، فالقائمون بالليل في القرآن الكريم، هم المستغفرون بالأسحار، المسبّحون الذاكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ومصداق هذا آياتٌ عديدة وأحاديث متواترة، منها قول الله عز وجلّ في وصف المتّقين:
﴿كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون﴾
والاستغفار سَحَرًا فسّره الإمام الصادق عليه السلام بقول "أستغفر الله وأتوب إليه" سبعين مرةً في قنوت الوتر
وقال الله جلّ وعلا أيضا:
﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعا﴾
حيث أن دعاء الله خوفًا وطمعًا يتمثّل في الخوف من الذنوب والطمع في المغفرة.
وقال كذلك:
﴿والذين يبيتون لربهم سجّدًا وقياما﴾
"حيث عبّر عن صلاة الليل بالسجود لأنه أعظم الأركان في التواضع الصلاتيّ وأبلغ في مدح المتهجّ"
كما قال عزّ وجلّ:
﴿ومن الليل فاسجد له وسبّحه ليلًا طويلا﴾
حيث قرن السجود بالليل مع التسبيح، ولعلها التسبيحات المروية عن الزهراء عليها السلام عن أبيها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، "سبوحٌ قدوس رب الملائكة والروح" خمس مرات، في كلٍّ من سجدتي الشكر عقيب ركعة الوتر، والتي أشرنا إليها في موضعٍ سابق...
وأما قوله:
﴿أمّن هو قانتٌ آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه﴾
فهو إشارة إلى القنوت الوارد استحبابه في ركعة الوتر الأخيرة من صلاة الليل، ولهذا القنوت أهميةٌ خاصة، فهو ثمرة الصلاة التي يجنيها القائم المستغفر الخاشع، وعليه المعوّل في إتمام هذه الفضيلة، حيث ورد عن الأئمة عليهم السلام كراهة ترك القنوت إعراضًا عنه، فقال الإمام الصادق عليه السلام:
"من ترك القنوت رغبةً عنه فلا صلاة له"
وقد أورد عليه السلام آدابًا خاصةً للقنوت، حيث قال: "أثنِ على الله عز وجل وصلّ على النبي، صلى الله عليه وآله، واستغفر لذنبك"، ثم قال: "كل ذنبٍ عظيم" .
وهنا نلاحظ أن الأئمة عليهم السلام يوجهون انتباهنا نحو استعظام كل ذنب، لكي يحسن العفو من الرب، فيستصغر العبد نفسه ويجلّ ربه، وإلى ذلك يرمز إمامنا الكاظم عليه السلام، في ما ذكر عنه أنه كان يقول في سجوده: "عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك..." وقول الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاة التائبين: "إلهي إن كان قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك"...
إن كلّ ما أسلفناه، إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على عظيم أهمية هذه الصلاة، فهي تاج النوافل التي جعلها الله لعباده استحبابًا، "ليتمّوا بها ما نقص من الفريضة" ، جرّاء عدم التوجّه والإقبال القلبي الذي قد يعانيه الإنسان في فرائضه، كما أنه يدلّ على أهمية الاستغفار فيها، فهو منصوصٌ عليه في قنوت الوتر، بالاستغفار سبعين مرة، وقول : "هذا مقام العائذ بك من النار" سبع مرات، وقول "العفو العفو" ثلاثمئة مرة، والاستغفار لأربعين مؤمنًا بأسمائهم، كل ذلك في قنوت الوتر، كما أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت في تعقيبات هذه الصلاة، كدعاء "التعرّض للإجابة" عقيب ركعتي الشفع، وهما ركعتي الوتر الأوليين، ودعاء الحزين عقيب ركعة الوتر الأخيرة، وهما من أدعية الإمام السجّاد عليه السلام، كلّ ذلك يؤكد على أن الاستغفار هو سرٌّ من أسرار هذه الصلاة العظيمة، وكنزٌ من كنوزها الجسيمة...
خاتمة:
إن نافلة الليل، وهي الأكثر ذكرًا بين النوافل على لسان الخالق جلّ وعلا، في محكم كتابه، وعلى لسان نبيه المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، هي ميزانٌ من موازين صلاح العمل في كل حين، ولا يستخفّنّ بها الإنسان إن أراد لعمله أن يأتي خالصًا لوجه ربه الكريم، مقبولًا عنده، وهي من علامات المؤمن في كل زمانٍ ومكان، ومن توفيقاته ونجاحاته الدنيوية والأخروية على حدٍّ سواء، ولو استطاع المؤمن الساعي إلى مرضاة ربه وغفرانه، أن يحظى بها ويصل إلى مرتبة المواظبين عليها، لنال بركاتها في دينه ونفسه وأهله وماله، ولكان في هذه الدنيا من المرزوقين، وفي الآخرة من الناجين، وعسى أن تكون هذه الكلمات التي أوجزنا فيها شيئًا من غيث رحمة الله المتمثّل بهذه الصلاة، ذكرى وتذكرةً للعارفين والغافلين، والحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع:
• القرآن الكريم
• "أصول الكافي" الكليني
• "بحار الأنوار" العلامة المجلسي
• "تهذيب الأحكام" الشيخ الطوسي
• "ثواب الأعمال" الشيخ الصدوق
• "جامع أحاديث الشيعة" السيد البروجردي
• "علل الشرائع" الشيخ الصدوق
• "عيون أخبار الرضا عليه السلام" الشيخ الصدوق
• "صلاة الليل" ميرزا غلام الرضا عرفانيان
• "فقه الرضا"- مصادر بحار الأنوار
• "الكافي" الكليني
• "مجمع البيان في تفسير القرآن" الطبرسي
• "موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)" الشيخ هادي النجفي
• "ميزان الحكمة" محمد الريشهري
• "وسائل الشيعة" الحر العاملي