صلاة الليل في القرآن والحديث بين المجتمع القديم والحديث (3)
بعدما تحدّثنا في الجزءين السابقين من المقالة عن الصلاة الواجبة عمومًا وأهميتها وحرمة تركها، وعرّفنا صلاة الليل وأكّدنا على استحبابها وعواقب تركها ودلالاته، ثم تحدّثنا عن خصوصية صلاة الليل ونظرة المجتمع الحديث إليها، وأوردنا بعضمصاديقها وشواهدها من القرآن والحديث الشريف عن النبي والأئمة الطاهرين عليهم أفضل الصلاة والسلام، وذلك في سبيل توضيح وترسيخ فكرة عمومية وسهولة صلاة الليل التي ظنّ ويظنّ البعض أنها مختصّةٌ بمن هو متفرّغٌ للعبادة أو التفقّه في الدين.فقد كان لا بد في هذا الجزء من المقالة، واستكمالًا للبحث، أن نتوسّع قليلًا في الأحاديث الشريفة المروية عن أهل البيت عليهم السلام، التي تحثّ على صلاة الليل واستحبابها المؤكد، كما كان لا بد من توضيح أسباب وعوائق ترك صلاة الليل وعدم التوفيق لأدائها.
ثالثًا: فوائد صلاة الليل في القرآن والحديث:
إن من الطبيعي أن تكون لصلاة الليل، أسوة بسائر العبادات الواجبة والمستحبة، التي أمر الله عزّ وجلّ بها ورغّب بها عباده، فوائد جليلة وعظيمة، على المستوى الدنيوي والأخروي، فتلك فضيلةٌ لدين الله الخاتم، ومعجزةٌ من معجزات الشريعة الإسلامية، أن تكون كل جوانبها العبادية منها والعملية، قائمةً في سبيل هدفٍ واحد، هو سعادة الإنسان وراحته، النفسية والجسدية والفكرية والروحية، في كل زمانٍ ومكان.
ومن الطبيعي أيضا، أن يتحفنا آل البيت بذكر تلك الفوائد، بحيث يكون لهم عليهم السلام، وهم تلك الأنوار القدسية التي حفّ بها عرش الربوبية، أحاديث جمّةٌ وغزيرة، في فضل وفوائد هذه العبادة الملكوتية.
*فعن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وصيته للإمام علي عليه السلام:
"يا علي عليك بصلاة اللليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل"
*وعن الإمام علي عليه السلام:
"قيام الليل مصحّة البدن ورضى الرب وتمسّك بأخلاق النبيين وتعرّض لرحمته"
*وعن فاطمة الزهراء عليها السلام أنها نقلت عن أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما سألته عن الجهاد قوله:
" ألا أدلّك على شيء يسير وأجره كبير، ما من مؤمن ولا مؤمنة يسجد عقيب الوتر سجدتين ويقول في كل سجدة: "سبوحٌ قدوس رب الملائكة والروح" خمس مرات، لا يرفع رأسه حتى يغفر الله ذنوبه كلها واستجاب الله دعاءه وإن مات في ليلته مات شهيدا"
حيث أورد النبي هذه الفوائد لصلاة الليل بموازاة حديثه عن الجهاد في موضعٍ سابقٍ من الحديث، فلا ريب إذًا أن يكون لها التأثير الأكبر على تزكية النفس في جهادها الأكبر، للمرأة والرجل على حدٍّ سواء، ولعمري فإن هذا الجهاد هو من أمسّ حاجات هذا الزمان العنيد، حيث يعيش الناس نوازع النفس ومغريات الحياة، وتتصاعد أبخرة الشهوات، بحيث تزكم الأنوف وتحتاج إلى ما ينقّيها ويرقّيها، لتخرج من هذا الأتون الدنيوي إلى نعيم السلام الروحي، الذي لا يتأتى إلا عبر علاقةٍ رقيقةٍ شفافة يقيمها الإنسان مع بارئه، فيكون هو مستودع سرّه وأنيس نفسه، يخلو إليه حينما تمضّه الهموم، ويلجأ إلى حصنه الحصين حينما تعييه الغموم، فتنفرج أمامه المضائق وتزول العوائق، ويعوم في بحر الدنيا فلا يغرق، ويتمسّك بالعروة الوثقى فيغدو بها أوثق.
*وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام قوله:
"حافظوا على صلاة الليل، فإنها حرمة الرب، تدرّ الرزق وتحسّن الوجه وتضمن رزق النهار"
فهي إذًا مجلبة للرزق وجمال للوجه، ومن هنا تأثير العامل الروحي والنفسي على الشكل الخارجي للفرد، وعلى حسن سعيه في عمله بحيث يكون منشرح الصدر قادرًا على إتقان العمل مما يزيد في رزقه المادي، لا المعنوي فحسب، وزيادة الرزق المقسوم نتيجة طبيعية للإخلاص في العمل والاستغفار، إذ قال الله عزوجل:"أدعوني أستجب لكم".
*وقد سئل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "ما بال المتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجها؟" فقال: "لأنهم خلوا بالله فكساهم الله من نوره"
فنور وجه المصلي هو إذًا من نور الله، وحين تغدو الأمور الروحية ذات انعكاساتٍ ماديةٍ، ندرك معنى أن يكون الإنسان كائنًا ازدواجيّ الوجود، فهو جسمٌ وروح، وقلةٌ هم أولئك الذين يتمكنون من إعطاء البعد الروحي حقه، بحيث تتوازن كفتا هذا الكيان الآدمي، ولعل الزمان الذي تزدهر فيه حضارة المادة، كزماننا الحاضر، هو أكثر الأزمنة احتياجًا لعنصر الروح، حيث يمكن لهذا العنصر اللطيف أن يرمم ما أفسدته أهواء المادة من كينونة هذا الكائن المسكين، وليس عليه إلا أن يعي هذه النقطة، وأن يسعى لها سعيها، ليتمكن من تحصيل التكامل الإنساني الذي يطلبه المرء في كل حين، منذ آدم إلى قيام يوم الدين.
ولكن، ترى، هل يكفي إدراك فضل هذه العبادة العظيمة، والعلم بعمق مكنونها وجليل فائدتها، لكي يتمكن المرء من الإتيان بها والالتزام بأدائها؟!
إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في الإنسان نفسه، فسلوكه الحياتي يحدّد سلوكه العبادي، ولئن استطاع أن يلزم نفسه بالفرائض رغم تجاوزه لحدود الشرائع أحيانًا، فصلى خمسه وصام شهره وأخرج زكاة ماله و خمسه، وحج البيت، إلا أنه لم يشتغل على تزكية نفسه حق التزكية، ولم يتّقِ الله في كل ما أمر، من ظاهر أمره و ما استتر، فهو لم ولن يوفّق لأداء صلاة الليل، فهي عملٌ يتطوّع به العبد ولم يلزمه به الرب، وهي فضيلةٌ قائمةٌ ما بين العبد وربه، لا رياء فيها ولا مصانعة، ولا مداجاة ولا ممالأة، لأنها تؤدَّى في وقتٍ تغفل فيه عيون الرقباء، ولا تسهر إلا عيون الرقيب الأعظم، الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا تواعدها إلا عينٌ اشتاقت للقاء المحبوب، وأنست بقرب المحجوب، فحقّ لها أن تذوب في هواه ذوبان الشمس في شفق الغروب، لتشرق من جديدٍ مع فجرٍ عتيد، يكون لها فجرًا وسترًا لا يبيد...
فما هي إذًا تلك العوائق التي تحول بين المرء وبين هذا التواصل العجيب، وكيف يمكن له أن يذلّلها ليصل إلى مقصده، أن يغدو من المتهجدين الميامين، المستغفرين بالأسحار من أصحاب اليمين؟!
رابعًا: عوائق صلاة الليل:
إن الحرمان من نافلة الليل هو من دلالات الخسران، ولعل في هذه الحقيقة ما يفاجئ من لم يتعوّد على أدائها، ولم يتعرّف على أهميتها وموقعها الروحي في بناء شخصية الإنسان المؤمن.
وقد أوردنا في مقامٍ سابق، قول الإمام علي عليه السلام لذاك الرجل الذي أتاه يشكو إليه من حرمانه الصلاة بالليل: "أنت رجلٌ قد قيّدتك ذنوبك".
فإن في هذا الرد البليغ الشديد ما فيه من توضيحٍ لنقطتين، أولهما أن التوفيق لهذه العبادة السامية مرتبطٌ أشد الارتباط بالتحرر من الذنوب، لا بعدم وجودها أصلًا، فمن منا لم يذنب؟! ولكن التقيّد بالذنوب يشير إلى استعبادها للإنسان وتمكّنها من رقبته، بحيث لا يستطيع منها فكاكًا، وما ذلك إلا لإصراره عليها وضعفه عن التراجع عنها والاستغفار منها. أما النقطة الثانية فهي حثٌّ على التخلّص من هذه الذنوب باللجوء إلى صلاة الليل، وكأن الإمام يقول للرجل: لا سبيل لك بصلاة الليل إلا إذا تحرّرت من ذنوبك وأعتقت نفسك من عبودية الشهوات والمعاصي.
ويؤكد هذه الحقيقة قول الإمام الصادق عليه السلام: "إن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها من صلاة الليل..." وقوله أيضا: " إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإن العمل السيء أسرع في صاحبه من السكين في اللحم".
فإذا صلاة الليل تكاد تكون انعكاسًا لحال المؤمن، وميزانًا لحسناته في الدنيا قبل الآخرة، رغم أنها من موارد الاستغفار المقبول، ومحو الذنوب أيضا، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾حيث فسرها الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار"
ولئن كانت الذنوب والإصرار عليها عائقًا يحول بين المرء وبين قيامه بالليل، فلا بد من سبيلٍ يرفع عن العبد العاصي هذا التقصير ويعينه على اجتناء هذه النعمة، ولئن كانت أول درجات الوصول هي الخطوة الأولى، أي الاعتراف بالذنوب والتراجع عنها، تمهيدًا لطلب المغفرة من الله عزوجل، فإن آل البيت عليهم السلام قد علّموا شيعتهم وسائل متعددة يستطيعون بها أن يتغلّبوا على ضعف نفوسهم تجاه تسلّط الشهوات عليها واستضعاف الأهواء لها، فيبرز هنا السؤال: كيف يمكن لمن كان تقصيره مثبّطًا له عن هذه العبادة العظيمة، أن يتجاوز هذه العقبة الكأداء؟!