محمد صالح مكية (1914م/2015م) الجغرافيا والتاريخ في العمران

عرف العراقيون منذ القدم بحبهم للعمران وعشقهم للاستقرار وإعمار الارض لما تتمتع به تربة بلاد الرافدين من خصائص وميزات تساعد الانسان على الإعمار والبناء، وقد ترك العراقيون القدماء شواهد وأدلة عديدة على نبوغهم في فن العمارة كالمعابد الضخمة والزقورات والاسوار الكبيرة والأبواب العريضة وغيرها، وبمرور الزمن تطورت العمارة في بلاد الرافدين ومع دخول الإسلام أخذ طابع العمران يأخذ منحى يتلاءم والمرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة حيث انقلبت مفاهيم الربوبية والعبودية والنظرة إلى الكون.

ومع دخول العراق عصر الدولة الحديثة عام 1920م أصبح التخصص في هندسة العمارة واحدا من التخصصات التي تستطيع تلبية متطلبات هذه الدولة من الأبنية والدور والمدارس والجامعات وأماكن العبادة والترفيه وغير ذلك.

ويعدّ المرحوم (محمد صالح مكية) واحدا من الرعيل الأول للمهندسين العراقيين الذين تتلمذوا على يد الغربيين واستطاعوا توظيف ثنائية التراث والمعاصرة بجدارة من خلال تصاميمهم الهندسية والعمرانية، وقد ولد مكية في بغداد (محلة صبابيغ الآل) عام1914م لأبوين ينحدران من أصول جنوبية هاجرت إلى العاصمة منذ زمن بعيد مشتغلة بمهنة التجارة التي أكسبت هذه الأسرة شهرتها واحترامها بين الأسر البغدادية العريقة منذ نهاية الحقبة العثمانية وحتى يومنا هذا كما يروي لنا ابنها محمد مكيّة في سيرته الذاتية التي نشرها من خلال كتابه المسمى (خواطر السنين)، وقد تعلم مكية في كتاتيب بغداد وتخرج مُكملا دراسته الثانوية من المدرسة النظامية ببغداد لينتقل بعدها الى بريطانيا لدراسة الهندسة المعمارية في جامعة ليفربول حاصلا منها على دبلوم الهندسة المعمارية ثم على شهادة الدكتوراه من جامعة كمبردج عام 1946م متناولا بأطروحته العلميّة تأثير مناخ البحر المتوسط على العمارة في بلدان هذا الإقليم الجغرافي الذي يشكل نقطة اللقاء والتصادم بين حضارتي الشرق والغرب.

حقّق مكية نجاحات مدوية في مجال الهندسة المعمارية لا على مستوى العراق والوطن العربي فحسب، بل وعلى مستوى دول العالم كافة، فقد ترك له بصمة معمارية في كبرى العواصم العالمية كتكساس ولندن وروما وباريس وكوالالمبور وغيرها، فضلا عن بصمته في بغداد والبصرة وكربلاء ودمشق والكويت والقاهرة ومسقط وأبو ظبي وغيرها من المدن العربية الأخرى التي هندس بعض أبنيتها المعروفة والمسجّلة باسمه، وذلك لأنه مهندس بارع قادر على توظيف إمكاناته الهائلة ومخيلته البغدادية الخصبة، وانطلاقا من أن المصمم المعماري - كما يرى محمد مكية- يجب أن يحمل مسؤولية كبيرة تجاه البيئة والكرة الأرضية التي تحمله وحملت أسلافه من قبل وستحمل أحفاده فيما بعد، كما يجب أن تكون لهذا المصمم الفنان فلسفته الخاصة- لا سيما إن كان مسلما-  وهي فلسفة ستغذيها حينها الجذور الدينية المؤمنة بضرورة تعمير الأرض وصيانتها على أحسن مرام نزولا عند أمر خالق الكون ومصمم الوجود الذي حثّ على عمران الأرض وإحيائها وإسعاد كل دابة من دوابها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

واللافت أن أعمال محمد مكية تستجيب لمؤثرات عدة، فهي حين تشمخ مطاولة أعنان السماء في كل المدن لا تتجرد من خصوصيتها البيئية، وهي حين توظِّف التاريخ ومؤثراته الوجدانية فلن تتخلى عن عامل الجغرافيا الذي عشقه، ولن تغادر طبيعة وشروط اللحظة الراهنة التي تكون عليها مدينة ما، ولذا نجد مكية يقول مستذكرا بدايات اهتمامه بالمعمار في طفولته: (وجدت منذ وقت مبكر أن تفكيري وغاياتي في التخطيط العمراني تنسجم مع النصوص القرآنية، وكان تفكيري ينصب دائما على الهدف العام قبل الخاص، أي على مراعاة المصلحة البيئية العليا عند التخطيط لأي مشروع، وكنت دائما ما أضع في اعتباري حقوق الإنسان والمكان والزمان، فهذه العناصر الثلاثة تشكّل أساس نظريتي في التصميم المعماري، إذ لا بد للبناء أن يتكامل مع البيئة ويذوب فيها، ولا بد له أن يلبي حاجة الإنسان لا أن يطمسها أو يتعالى عليها، كما لا بد له أن يتلاءم مع ظروف ومتطلبات العصر)

 ويعلن مكيّة في أكثر من مناسبة عن أسفه وألمه لما وصلت إليه حالة العمران في البلاد العربية وخصوصا في بلده العراق وتحديدا مدينته الأثيرة العاصمة بغداد التي أصبحت متطلبات العمران فيها بعيدة عن منطقي الجغرافيا والتاريخ الذين جعلهما منطلقا له في إجراءاته وتصاميمه الهندسيّة، فبغداد اليوم تتراكم في أزقتها وشوارعها أطنان الإسفلت العاكسة لحرارة بغداد اللاهبة صيفا، وكأنها صممت لأفواج السيارات التي تدور في دروبها بينما فقدت المدينة طابعها العمراني الإنساني الأليف القديم والممتزج فيه روعة التاريخ وسحره ومتطلبات الجغرافيا وضرورتها البيئيّة.

وقد حلم مكية بمشروع لإعادة تأهيل بغداد على المستوى العمراني بما يتفق وقيمتها الحضارية التاريخية وموقعها الجغرافي اليوم، لكن عوائق كبيرة أجهضت هذا الحلم تقف الحروب والدكتاتورية والاستبداد السلطوي المفسد لكل أمل في النهوض، وقد أخذ هذا الحلم على عاتقه راحة الإنسان ومساعدته على سرعة التنقل بين أجزاء المدينة، وتقليل مستوى الدخان والزيت والتلوث، آملا أن تكون بغداد عروس الشرق كما كانت في سالف أيامها، لكن الحلم تناهبته يد الرياح وتبخر في ظل تعاقب حكومات لا تمتلك حسا جماليا ولا حاسة بصرية تأنف للمشاهد المقززة للنفايات ومصبات الكونكريت العشوائية التي تغزو ساحات بغداد وطرقها الضيقة والعريضة على حدّ سواء.

وهكذا ظل الدكتور محمد صالح مكيّة باعثا في العمارة الإسلامية روحا عصريّة جديدة من خلال المساجد والأبنية ذات الطابع الديني التي تولى تصميمها، كما ظلّ حالما ببغداد الجميلة الوضّاءة وذائبا حتى وهو في ديار الغربة بأزقتها الضيقة وببيوتها القديمة الخلّابة ومحلاتها ومعالمها الأثرية منذ أن فتح عينيه في بغداد ملهمته وأمّه الرؤوم حتى وافاه الأجل المحتوم في لندن ديار غربته الطويلة والإجباريّة...


العودة إلى الأعلى