عيد الفطر المبارك.. يوم الإكرام والكرامة

تكتنف فلسفة الصوم في الإسلام أبعاد روحية تهذيبية وتربوية جمة، فهو ليس شهر الامتناع عن الطعام والشراب من زمان معلوم إلى زمان معلوم، والصوم ليس مجرد لجم لشهوة عمياء لا تعرف للشبع حدا، ولكنه بناء أخلاقي عظيم لمن يتأمله، وقد جعل الله في هذا الشهر سرا من أسرار اختبار إرادة الإنسان في الصبر على المكاره ، وبحسب تعبير رسولنا الكريم فقد ((حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)) وهو القائل أيضا (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) ومعنى كلامه (صلى الله عليه وأله) أن الايمان يتجلى أكثر ما يتجلى في صوم رمضان لا بمجرد الامتناع عن الطعام والشراب، وإنما بالالتزام بشروط الصوم التي تكمل هذه الطاعة على أتم وجه شهرا كاملا ختامه يوم عظيم هو العيد الفطر المبارك.

وفي خطبة للإمام علي بن أبي طالب –عليه السلام-  في عيد الفطر تتجلى فلسفة الصوم في الإسلام وفيما يعقب هذا الشهر الذي هو يوم عيد وفرح بقبول الطاعات وارتفاع أجر الصوم إلى من لا تضيع عنده الودائع ، وقد قال أمير المؤمنين في ذلك: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ يَوْمَكُمْ هَذَا يَوْمٌ‏ يُثَابُ‏ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ وَيَخْسرُ فِيهِ الْمُسِيئُونَ، وَهُوَ أَشْبَهُ يَوْمٍ بِيَوْمِ قِيَامَتِكُمْ، فَاذْكُرُوا بِخُرُوجِكُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ إِلَى مُصَلَّاكُمْ خُرُوجَكُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّكُمْ، وَاذْكُرُوا بِوُقُوفِكُمْ فِي مُصَلَّاكُمْ وُقُوفَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ، وَاذْكُرُوا بِرُجُوعِكُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ رُجُوعَكُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ.. واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ أَدْنَى مَا لِلصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ أَنْ يُنَادِيَهُمْ مَلَكٌ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَبْشِرُوا عِبَادَ اللَّهِ فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَكُونُونَ فِيمَا تَسْتَأْنِفُون"‏.

كما وروي عنه (عليه السلام)  أنه قال: "ليس العيد لمن لبس الجديد، وإنما العيد لمن أمِنَ الوعيد"، ويقول: "كل يوم لا يعصى اللَّهُ فيه فَهُوَ عيد" ولذلك سيفرح الصائم بقبول طاعاته، والعيد هو يوم كرامة المسلمين وإكرامهم، فإظهار الفرح فيه واجب، وإظهار التسامح فيه عن المسيء مستحسن ومأجور عليه، وإشاعة المحبة والسلام وإطعام الطعام من لوازمه، فأي فرح أعظم من فرحة المسلم بقبول طاعاته، وأي أمر أعظم من أن ينتطر المرء هذا اليوم بصبره على مكاره الجوع والعطش، وامتناع جوارحه عن السوء والمعاصي بكل أصنافها .

فما أشدَّ حاجتَنا -نحن المسلمين اليوم وغدا- إلى أن نفهم أعيادنا فهمًا جديدًا، فنتلقَّاها به بوعي جديد يعيد للصوم معناه وأثره وتألقه في النفوس التي ستظل لهفى حرّى للقائه عاما كاملا لتعيد مراسيم الطاعة ولتكرر آيات الامتنان ولتجدد الإقرار بالعبودية على أمل انتظار يوم الظفر بالجائزة في يوم تفرح فيه الأمة من نشرقها إلى مغربها، وفي فجر سعيد تتصافح فيه القلوب قبل الأيادي.

فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في هذا اليوم لا اليوم نفسه، أي فيما تشتمل عليه فلسفة العيد من معان وتجليات يعجز اللسان عن ذكرها، ويعجز القلم عن تسطيرها، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقَّوْن هذا اليوم، وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة المتجددة وعيد الكرامة المنتظرة ، والأمل الموعود بها عبر ما كان عليه الصائم من صدق القلب وطهارة اللسان وصفاء النية وثبات العقيدة والصبر على مشقات لوازمها شهرا كاملا.

ولما كان الله في كتابه الجليل قد أمر بالفرح في موسمه ومقامه حين قال جل من قائل: ( قل بفضل الله وبرحمته بذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) فعلى المسلم الصائم أن يظهر فرحه ويعلنه على الملأ وبين الناس وبما يتماشى وطبائعهم وثقافتهم ابتهاجا بهذه الكرامة (كرامة القبول من الله العزيز الحميد) لطاعة عباده والتزامهم بأوامره ونواهيه التي هي في الحقيقة مشتملة على منفعة الإنسان ومصلحته الصحية والنفسية والاجتماعية فيما يخص الصوم بوصفه إحدى العبادات الرئيسة التي أقرها الإسلام وحث عليها وحذر من نسيانها أو التهاون فيها لأي سبب من الأسباب عدا الإسباب الموجبة التي بينها القرآن والفقهاء على ضوء من آيات القرآن المجيد.

وبما أن تعظيم شعائر الله منجاة للقلوب وإنقاذ للنفوس، فالصوم شعيرة مباركة وطقس عبادي يحقق منافع جمة على مستوى الفرد والمجتمع معا، فلذا حبب الإسلام إشاعة الفرح يوم العيد، وحث على التفنن في إدخال البهجة على قلوب الأولاد الصغار والأطفال عموما واليتامى منهم خصوصا لكي تتعزّز قيم الإسلام (ومنها الصوم المقبول بشروطه المشار إليها) داخل المجتمع ولكي يسري في دم الأطفال ثقافة أصيلة تربي نفوس النشء على ثقافة المسلمين وتعلي من شأن أعياد المسلمين التي هي  بمثابة الكرامات التي منّ الله بها على أتباعه المسلمين.

 وفي هذا الفرح والاحتفال والابتهاج معنى آخر يعلي من شأن الأمة التي يريد أعداؤها على الدوام أن يروها أمة مخذولة جبانة مستكينة لا تقبل عليها الحياة، بعكس ما أراد لها الله لكي تكون خير أمة أخرجت للناس أمرة بمعروف وناهية عن منكر، وإذا ما رأت الأمم الفرح البهيج في قلوب المسلمين الفرحين بدينهم وبتعاليمه وبوصايا كتابهم ونبيهم وأئمتهم، فإن ذلك سيكون بمثابة الشوكة في أعينهم، فضلا عن كونه يعبر عن معنى اعتزاز الأمة بكرامات الله لها ، وعما يشتمل عليه هذا الأمر البسيط الذي نغفل عنه أو نعجز عن تأديته على أفضل وجه من قوة ومن شعور بالقوة يغذي النشء ويقويهم ويجعل لهم شأنا بين خلق الله أجمعين.


العودة إلى الأعلى