سعيد الغانمي 1958م- ... البحث عن جذور العقل الأولى!
امتاز العقل العراقي الحديث منذ انبثاق مشاعل النهضة الفكريّة مطلع القرن الماضي وحتى يومنا بكونه عقلا فاعلا ومؤثرا في المشهد الثقافي العربي من خلال مجموعة طروحاته التي لامست الواقع بإشكالياته ومداخله المتعددة، وقد تكثفت جهود هذا العقل منذ منتصف القرن الماضي- أي بعد جيل الروّاد- لتنتج في العقدين الثمانيني والتسعيني جيلا جديدا من النقاد والمفكرين الخارجين من متاهات الحروب والحصار والدكتاتوريّة والباحثين عن الأحلام وعن إجاباتٍ مقنعة لبعض الاسئلة الحارقة والمحيّرة بغية الوصول إلى اعادة صياغة الواقع وتشكيله من خلال نوافذ عديدة جديدة، منها: محاولة تفكيك العلاقة مع الآخر الغربي، والموقف من الموروث وطريقة النظر إلى الذات وإلى المستقبل وسوى ذلك من أمور أخرى .
ولعلّ سعيد الغانمي المولود على ضفاف الفرات بمدينة الديوانية عام 1958م والشاهد على عصر الحروب والدكتاتورية وسقوطها والمعايش -في آن معا- لعصري الحصار الاقتصادي المدمر، وعصر الديمقراطية والإرهاب؛ هو واحد من ركائز الثقافة العراقية المعاصرة استنادا لما قدمه من بحوث ودراسات متنوعة ومختلفة امتدت من عوالم الكتابة الفنية ونقد النصوص الأدبية مرورا بمتابعة التكوين الحضاري للعرب قبل الإسلام ورصد ينابيع لغتهم الأولى وانتهاء بتفكيك كتابات المتصوفة والوقوف عند أسرارهم وإبداعاتهم المعرفية الخاصة التي لا تتشابه في محتوياتها ومقاصدها مع كل كتابة أخرى، لتصل مجموعة كتبه التي أصدرها مجتمعة إلى حوالي خمسين كتابا قابلة للزيادة في الأعوام القادمة في ظلّ منفاه الإجباري (أستراليا) الذي يوفر له الوقت الكافي للكتابة والتفكير .
كان لتخصص الغانمي في دراسته الأكاديمية الأولى بحقل الترجمة في جامعة الموصل الدور الأكبر في تفتّح وعيه على معارف الأمم الأخرى وعلى مناهجها التي قطعت شوطا كبيرا في الدراسات الإنسانية، وهو ما نلمسه من خلال اتباعه منهجية لا تعتمد العرض التاريخي السطحي لما يتناول من موضوعات ومباحث وإنما تلجأ إلى ما يشبه الحفر المعرفي للموضوع المدروس بغية الإحاطة به من كلّ جوانبه ثم الإمساك بمفاصله القابلة للتأويل أو القراءة على وفق معطيات المعرفة الموسوعية وإمكاناتها التي استثمرها الغانمي جيدا فأتاحت له هذه القراءة أو ذلك التأويل.
حاول الغانمي في احد كتبه المهمة (ينابيع اللغة الأولى) تلمس تاريخ المنطقة العربية قبل مجيء الإسلام، وهو تاريخ تغيب فيه الوثائق والشواهد الأكيدة ويحضر الحدس المعرفي والقدرة على الاستنباط والجمع والتركيب لما يتيسر من معلومات احتفظت بها ذاكرة شفوية لم تعتمد التدوين رسميا إلا بعد مرور أكثر من قرن على ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، حيث ينتهي هذا المفكر العراقي بعد استقراء تاريخ المنطقة الوثني الطويل وما عرفته من تعدد الآلهة والمعبودات قبل ظهور الإسلام إلى أن فكرة التوحيد ما هي إلا مخاض عسير عاشته الصحراء العربية بعد أن فقدت كل الآلهة والمعبودات جدواها وخوارقها، وهو الأمر الذي يفسّر سرعة الاستجابة للدعوة الإسلامية خارج حدود مكة (مدينة الرسول) المحكومة بأعراف وتقاليد وإحن قبلية ضيّقة جعلتها في مواجهة حتمية مع صاحب الدعوة الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)!
أمّا كتابه (مئة عام من الفكر النقدي -دراسة في الأصول الثقافية والمرجعيات الاتصالية للنقد الحديث في العراق- الصادر عن دار المدى للعام 2001م، فقد حاول الغانمي العودة إلى جذور النقد العراقي الحديث من خلال قراءة مجموعة النصوص النقدية التي كتبها حيدر الحلي والنابلسي والرصافي والزهاوي والبصير والملائكة وحسين حردان وفاضل ثامر وغيرهم، ما دامت هذه العودة قادرة على تفكيك الصورة التي آل إليها النقد العراقي في (صحوة بغداد الحوارية) عبر نقد الثمانينات والتسعينات، وهي صحوة الانفتاح على الشـكلانية والبنيوية والسيمياء والتفكيك والتأويل وكل ما استجد من مناهج أخرى.
وهكذا ظل سعيد الغانمي شغوفا بالجذور الأولى المحرّكة للأفكار وللأفعال والسلوكيات الحضارية التي شكّلت بالنسبة له هما معرفيا لكل موضوع من الموضوعات التي استثارته فلاحقها بصبر الباحث الجاد الذي لا يخلص في بحثه لشيء قد إخلاصه للحقيقة وحدها!