محمد حسين الصغير (1939م- 2023) التكامل الحوزوي- الأكاديميّ

منذ تاريخ نشأتها العلمية الأولى قبل أكثر من ألف عام ظلّت مدينة النجف وحوزتها الإماميّة منهلا عذبا، تفيض بالعلم وبمحبيه وتنأى بنفسها عن التقرّب للسلطة والسلاطين أسوة بأخواتها من حوزات العلم في الأمصار الإسلامية كالزيتونة والأزهر والقرويين.

وقد أنجبت مدينة النجف الغنية بمكتباتها ومؤسساتها الثقافيّة ذات الطابع الإسلامي المئات من العلماء الأجلاء الذين كانوا مفخرة على مرّ العصور، وقد كان للبيئة الخاصة التي عرفتها هذه المدينة الأثر البالغ على توجهات محبي العلم وعشّاق المعرفة الذين تقودهم اشتراطات النجف -بالضرورة- إلى الدرس الحوزوي (الديني) أولا.

ولنا في ذلك أمثلة كثيرة من رجالات النجف ومن مشاهيرها من العلماء الفطاحل ومن الشعراء والمثقفين والأساتذة الأكاديميين والكتّاب، غير أن نموذج الدكتور محمد حسين الصغير المولود بالمدينة ذاتها 1939م يكاد يكون نموذجا مثاليا في القدرة على الجمع بين الدراسة الحوزويّة والدراسة الأكاديمية وصولا إلى مرحلة تكاملية بين النوعين اللذين من الممكن أن يعضد أحدهما الآخر وكما يتضح بمجموعة كتب الأستاذ الصغير التي نذكر منها: الصورة الفنية في المثل القرآني، وكتاب الصوت اللغوي في القرآن، وكتاب أصول البيان العربي في القرآن الكريم، والمستشرقون والقرآن، ودلالة الألفاظ في القرآن، وسوى ذلك من كتب ومؤلفات أخرى عديدة تناولت جوانب عديدة من حياة النجف الثقافية وتاريخ آدابها.

ابتدأ الشيخ الصغير المنحدر من عائلة علمية دراساته الدينية في النجف الأشرف معتمرا عمّته البيضاء في ريعان شبابه، وقد رصّنت هذه الدراسات قناعاته وآراءه فيما أفاد من الدراسة الأكاديمية -تاليا- في التصنيف والتبويب والتخطيط والتسوير المنهجي والإحاطة العلمية الوافية والمعمّقة بالقضايا المطروحة قيد الدرس، وكان لتخرجه من كلية أصول الدين بجامعة بغداد عام 1968م الأثر الواضح على هذه الدراسات والبحوث الذي تتوج في حصوله على شهادة الدكتوراه الموسومة ( الصورة الفنية في المثل القرآني) فيما بعد.

وقد كانت محصولات هذا البعد التوفيقي بين النمطين من الدراسة ونتائجه محصولات وافرة وبادية للعيان في المجالات المعرفية المختلفة التي طرقها الصغير خلال رحلته المعرفية الطويلة ففي كتابه: تطور البحث الدلالي -دراسة في النقد البلاغي واللغوي- يربط مثلا، بين اللغة والبلاغة ربطا حتميّا هو في الأصل من صميم التواشج بين اللفظ والمعنى، لأن البلاغة تقوم وتتقوم باللغة ولأن اللغة تصنع البلاغة التي تقصد أول ما تقصد التأثير الذي يتأتى بدوره ويتحصّل من سياقة الكلام لمقتضى الحال.

كما أن الشيخ الصغير ينطلق في بحثه البلاغي من منطلق علمي غايته تيسير البلاغة العربيّة وتقريبها لأذهان النشء الذي بات ينفر من شروحها المعقدة ومن نماذجها المكررّة التي تجترها ألسنة الدارسين على مرّ العصور دون القدرة على تأنيسها وتحبيبها للنفوس، ولذا نجد الأستاذ الصغير يزاوج بين الدلالة والصورة من هذا المبدأ، فما دام اللفظ والمعنى دالين على شيء وفقا لسياق معيّن ومنتجين بعلاقتهما معا ما محصوله صورة، حيث أن الدلالة والصورة يقومان على قدم وساق إذ الصورة دلالة والدلالة صورة، وهكذا فقد أعطى الدكتور الصغير قيمة قصوى للدلالة في البلاغة بحسب تعبير أستاذ البلاغة العربيّة (أحمد مطلوب).

ونرى ذلك الهم المنهجي – المعرفي في جهود الصغير ودراساته في ميدان علم التفسير الذي أخذ على عاتقه فيه إبراز وجهة نظر الإماميّة في جملة من المسائل التي شغلت المفسّرين طويلا لا سيما وأن الصغير يفرق بين أقسام آداب التفسير إلى أقسام موضوعية ونفسيّة وفنيّة، وهي أسام يحتاج إليها جميعا كل من يضطلع بمهمة تفسير القرآن التي تعد من أشق المهمات وأصعبها!

وهكذا ستظل دراسات الدكتور محمد حسين علي الصغير معينا لا ينضب لكل متعطش لعلوم العربيّة والقرآن الكريم لما فيها من عمق منهجي أصلته دراساته الدينية الأولى على يد أساطين النجف وعلمائها وهذبته المناهج الحديثة التي اطلع عليها بكد ذاتي وبجهد شخصي من خلال دراساته وبحوثه الأكاديمية أو من خلال تدريسه هذه العلوم لطلبته الذين يحملون له في أفئدتهم إعجابا وحبّا بالغين لما عرفوه في شخصيته العلمية والإنسانية من نبل وإخلاص للعلم وأهله!

 

 


العودة إلى الأعلى