التمهيد للعبادات، جوهرٌ روحيّ مكنون
إن المتأمّل في طبيعة الكون وسنة الخلق بنظرة شمولية موضوعية، يلاحظ كيف تنطلق الأسباب لتصل إلى النتائج، وذاك قانون السببية الذي تقوم عليه كلّ حوادث الخلق، كما يشكّل أساسًا للتفكير المنطقيّ السليم.
ومن الطبيعيّ حين تتدرّج المقدمات لتصل إلى نتائجها، أن يكون لها الدور الأكبر في تحقيق الأهداف التي تترتّب على تلك النتائج.
من خلال هذا التمهيد الذي يأخذ من الفلسفة بطرف، وما أردنا لهذه المقالة أن تخوض في الفلسفة وعلم المنطق، نصل إلى نقطةٍ في غاية الأهمية، وملاحظةٍ ذات أبعادٍ استثنائية؛ إنه الجوهر الروحي الكامن خلف التمهيد للعبادات الواجبة والمستحبة...
لعل العبارة السابقة كانت غامضةً بعض الشيء، ولا بدّ من مثالٍ يوضحها.
فلنحاول أن نرصد التمهيد للصلاة، باعتبارها "عمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت رُدّ ما سواها".
إن الصلاة على أهمّيّتها وتأثيرها العظيم في نفس الإنسان، كمدرسةٍ لتهذيب النفس وارتقاء الروح، لا تصحّ ولا تتمّ إلا بعد تمهيدٍ لها وهو الوضوء، والوضوء ظاهرًا هو غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وظاهر القدمين، فهل يمكن أن يكون هذا العمل البسيط ممهّدًا لأهمّ عبادات الدين؟
إن معرفتنا بأن الله لا يأمرنا إلا بما فيه الخير، ولا يطالبنا بأمرٍ عبثيّ لا فائدة منه، وإن تحليلنا لخطوات الوضوء، يؤكّدان لنا أن الوضوء بهذه الصفة جديرٌ حقًّا أن يكون ممهّدًا للصلاة، فالوضوء لا يتحقّق إلا مع نظافةٍ وطهارة، وكلاهما له تأثيرٌ على صفاء النفس البشريّة،فـ "النظافة من الإيمان"، والطهارة أمرٌ طبيعيٌّ مرافقٌ للصلاة بكلّ جوانبها، في الجسم واللباس والمكان، كما يُشترط في الماء أن يكون مباحًا غير مغصوب...
إنها سلسلةٌ من الشروط والشرائط التي ينبغي توفّرها في الوضوء، الذي هو مقدّمة الصلاة، وبنظرةٍ عامةٍ نجد أن من كان محقّقًا لها هو الإنسان الذي يحافظ على النظافة والطهارة من جهة، وعلى عدم غصب حقوق الناس من جهةٍ أخرى، أي أنه حائزٌ على الجوهر الروحي الكامن خلف الوضوء، فهو إذًا جديرٌ بأن يكون مصلّيًا، وإذا استكمل هذه الأسباب الراقية بصلاةٍ هادئةٍ يتوجّه فيها بقلبه وكلّ جوارحه إلى الله عزّ وجلّ، نال وسام الصلاة المقبولة عند الله.
وللصيام أيضًا تمهيد، بل تمهيدان، أحدهما مباشر والآخر غير مباشر.
أما التمهيد المباشر للصيام فهو السحور، ظاهره طعامٌ وشرابٌ يتّقي به الصائم جوع النهار وعطشه، فيحافظ على بدنه من الوهن والضعف، وباطنه قيامٌ في الليل يغالب به الصائم نعاسًا يتملّكه، فيغدو أقدر على مجابهة أهوائه، فنفسه تأمره بأن ينام ويرتاح، وروحه تشدّه نحو طاعة الله في ما أمر، يتسحّر بطعامٍ لا يُثقل به على معدته، ثم يلتفت إلى أعمال السحر وأوراده وأدعيته، فيغدو من حيث لا يدري من "المستغفرين بالأسحار"... وبعد هذه المراسم المدروسة، والتي أراد بها الله عزّ وجلّ أن يدرّبنا على صوم البطن عن الطعام وصوم الجوارح عن المنكرات، يغدو الصيام أجدى وأنضج ثمرًا، فهو ليس إلا مدرسةً للصبر على ما نحب وعلى ما نكره.
أما التمهيد غير المباشر للصيام فهما ذينك الشهرين العظيمين، رجب وشعبان، اللذين يسبقان شهر رمضان، وتزخر أيامهما ولياليهما بأعمال البرّ والاستغفار، حتى لكأنهما مقبّلاتٌ دسمةٌ حافلةٌ بما لذّ وطاب من مائدة الرحمن، تمهّد للوجبة الإلهية الأكثر لذّةً وفائدة، ألا وهي صيام شهر رمضان الأعظم، الذي أكرمه الله بما لم يكرم به سواه من الشهور، "فأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي"، يحتضن بين جنباته ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وحريٌّ بعبادةٍ روحيةٍ راقيةٍ كتلك، أن يكون لها من المقدّمات ما يضمن به الإنسان قطف أزكى ثمارها وأشهاها...
فإن استطاع المرء أن يكون بمستوى تلك العبادة، وأن يمهّد لها التمهيد اللازم، وأن يحوز الجوهر الروحيّ الكامن خلف مقدمات الصيام، دخل إلى رحاب الشهر محمّلًا بنفسٍ توّاقةٍ إلى الغفران، بل مغفورٍ لها فعلًا، وكان له نوال بركات هذا الشهر وشرف صيامه المقبول وعمله المبرور.
إن نجاح المرء في استثمار المقدّمات والأسباب، هو من دواعي نجاحه في قطاف النتائج الباهرة، وما أوردناه من مثالٍ يتعلّق بالصلاة والصيام، ينطبق على العبادات الأخرى، فالحجّ مثلًا له مقدّماته التي يدخل من بابها الحاجّ إلى رحابه، ومنها الإحرام بشرائطه المعروفة.
ويضيق المجال عن إيراد كل مثالٍ بتفاصيله الوافية، ونكتفي بهذا القدر الذي أردنا به مواكبة المناسبة الروحية الأبرز والأقرب إلينا، ألا وهو شهر رمضان المبارك، الذي بدأت بوادره تلوح وعطوره تفوح، فلعلّ في التذكير بأهمية ما حزناه وما سنحوزه من مقدّماته، ما يجعلنا نخوض في عبابه أكثر اشتياقًا للوصول إلى ضفافه الآمنة، واقتناص درره الكامنة.
نسأل الله جلّ وعلا أن يجعل أيامنا كلّها مذخورةً لطاعة الله سبحانه، عسانا نكون له عبادًا جديرين بصفة العبادة، وعسى أن نبيّض وجوهنا في محضر إمام زماننا في صيامه وقيامه، لنكون له من المنتظرين الناظرين إلى يوم اللقاء المنشود.