عبد المحســــــــــــــن الكاظمي (1871م - 1935م) شاعر القصيدة المرتجلة
عُرف عن الشعر الحقيقي بأنه فن لا يمنح نفسه بسهولة لكلّ ناظم أراد أن يعبّر عن معنى من المعاني التي تجيش في صدره وتضطرم بها روحه ليخرجها لسانُه على شكل نفثات منتظمة من السحر والإبداع تُطرب السامعين وتولّد في دواخلهم طاقات عجيبة – إيجابية أو سلبية- تدفعهم إلى الخير مرة أو إلى الشرّ مرّة أخرى!
ولعل الأمر يبدو أشد تعقيدا عندما يخرج هذا النظام الإبداعي من دائرة التربّص والإعداد المدروس الذي يستغرق أياما أو شهورا أو ربما سنوات إلى دائرة شديدة الضيق لا يعدو الإبداع فيها أن يكون وليد لحظته، وهي لحظة تتأجج فيها مكنونات الإبداع بفعل ما يشبه العصف الذهني الهائل الذي لا يقوى عليه إلا القلة من الشعراء المبدعين، وقد حفظ موروثنا النقدي والشعري حالات عديدة لهذه اللحظة التي يطلق عليها ( الارتجال) لشعراء هزّتهم مواقف وجدانية عنيفة فكتبوا قصائد خالدة مثل قصيدة الفرزدق عن الإمام السجاد –عليه السلام- حين تجاهله عبد الملك بن مروان (الخليفة الأموي) في موقف الحج المعروف، وكقصائد أخرى تنسب لأبي تمام والبحتري وأبي الطيب المتنبي وآخرين.
ولما كان الارتجال - وهو أن تتَحَدَّثَ شَفَوِيّاً مِنَ الذَّاكِرَةِ دُونَ تَحْضِيرٍ مسبق- فنّا معروفا عند قدامى الشعراء بسبب سلامة فطرتهم اللغوية ونقاوة سليقتهم البلاغية فإنه -ولاشك- نادر الحدوث في حياتنا الثقافية المعاصرة بسبب استشراء العُجمة وغياب الوعي اللغوي الصحيح واختلاط الألسن وما إلى ذلك.
لكن الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي كان أحد الشعراء الذين خرجوا على هذه القاعدة إذ عُرف بارتجاله شعرا رائعا وحسن التركيب بالرغم من ربّو بعض قصائده المرتجلة على المائة بيت من دون أن تضعف أو تلين أو يصيبها الخور والفتور في مفصل من مفاصلها، وكأنه يصرّ بذلك على كونه شاعر الارتجال الأوحد في العصر الحديث.
وقد ولد الكاظمي في بغداد عام (1871م) قريبا من ضريح الإمامين الجوادين لأسرة تمتهن تجارة الجلود والأصواف، ونُسب بذلك إلى مدينته (الكاظمية) التي تعلّم في كتاتيبها وحفظ القرآن وخطبا من نهج البلاغة في حلقاتها الدينية، ثم اطلع على الآداب الفارسية، منتفعا من خزائن مكتبات الكاظمية ومن ذخائرها ونفائسها اللغوية والأدبية التي كان يحفظ معظم أشعارها عن ظهر القلب.
وقد شاءت له الصدف أن يتعرف على جمال الدين الأفغاني وأن يعجب بأفكاره وآرائه الداعية إلى التحرر من نير الهيمنة العثمانية، ولما كان الأفغاني مطلوبا من الحاكم العثماني (عبد الحميد) بتهمة التحريض وإثارة الفتنة، فقد شملت التهمة الشاعر الكاظمي أيضا، حيث لازم الأخيرُ جمال الدين وصحبه عند دخوله للعراق والاحتكاك برجالاتها ووجهائها من أجل تحريك العشائر والمتعلمين ضد الهيمنة العثمانية، وهو ما دعاه أن يفرّ بجلده إلى القاهرة عام 1911م بعد مطالبة الدرك العثماني له لائذا بحمى (محمد عبدة) الداعية الإسلامي المعروف مستثمرا إعجاب الأخير بشعره وبشخصيته.
وقد خلّف الكاظمي وراءه ديوانا مطبوعا بمجلدين احتوى على 175 قصيدة ضمت 8618 بيتا جلّها في التشوّق لبلده الأم العراق، ولمدنه ومرابعه ومراقد الأئمة الكرام فيه، وقد كان شعره كما يصفه تلميذه الشاعر الجواهري مرآة صافية لجيله ومجتمعه، وبكونه ذخيرة من ذخائر اللغة العربية النقية ومفرداتها الجميلة، فضلا عن أن أغلب هذا الشعر مرتجل قاله الكاظمي لساعته.
وممّا يروى عنه في هذا الخصوص أنه دُعيَ مرة إلى حفل أقيم في مصر حيث قدمه عريف الحفل لإلقاء قصيدة في هذه المناسبة، فما كان منه الا ان ارتجل قصيدة عصماء جاوزت أبياتها المئة بيت، وهو ما أثار دهشة حضور ذلك الحفل الحاشد واستغرابهم، وكان بينهم نخبة من مثقفي مصر المعروفين آنذاك.
ونُقل عنه أيضا، أنّه أرتجل مرة في الحفل التكريمي الذي أقامه الشيخ عبد القادر باشا المصري على شرف المرحوم جعفر العسكري وزير الدفاع في حكومة النقيب الملكيّة عند زيارته للقاهرة سنة 1921م، مطولة من غرر قصائده تشتمل على ما يقرب من ( 145) بيتاً نالت إعجاب الجميع ودهشتهم من مقدرة الشاعر اللغوية وتمكنه من سطوة اللغة ووعورة الإيقاع وإشكالات التركيب النحوي، وكيف أنه تمكّن من صهر كلّ تلك الأدوات والوسائل اللازمة في مصهر إبداعه الفذ.
وفي عام 1935 رحل الكاظمي إلى بارئه بمدينة القاهرة غريبا والها ...في حين كانت عيناه تغرورقان بدمع التذكِّر، أما شفتاه المتيبستان فراحتا تتمتمان بذكر العراق وأهله وشجره ومائه وطينه، وكأنه يردد قوله:
دارَ الاحبةِ خبـــّـرينا *** عن أهلك الخبر اليقينا
نظر الظماء فلم يروا *** في بابك الوِرْدَ المعينا
وقد شَيّدت له الحكومة العراقية ضريحًا في مقبرة الإمام الشافعي بالقاهرة، ونقلت رفاته إليه عام 1947م ليظل ثاويا هناك ومذكّرا بموهبة فذة وقدرة شعرية لا تتأتى إلا للقلة القليلة من المبدعين.