الموهبة الفطرية بين النعمة والنقمة/ح2

تحدّثنا في المقالة السابقة عن الموهبة الفطرية وتعريفها وكيفية اكتشافها وضرورة تقديرها من قبل الإنسان، كنوعٍ من الشكر لله عزّ وجلّ الذي منحه هذه الموهبة.

كما بيّنّا أن هذه الموهبة نفسها قد تتحوّل إلى نقمةٍ إن أساء الإنسان استثمارها، وهو ما تتمحور حوله هذه المقالة.

إن أول ما يتوجّب على الإنسان أن يفعله نحو موهبته، سواءً كانت ماديةً أو معنوية، هي إدراكه لواجب الشكر على هذه الموهبة، وبأنها نعمةٌ أنعم الله بها عليه وخصّه بها دون سائر البشر، لتكون له عونًا على طاعته، كما هي سائر أنعمه الباقية، ولتكون حاجزًا يحول دون معصيته، وسبيلًا يرتقيه ليزيد من درجته.

إن الموهبة هي امتيازٌ يحوزه الإنسان فطريّا، فيضيفه إلى سائر امتيازاته الفطرية الأخرى التي يتشارك فيها مع بني البشر، ككمال الخَلق مثلًا، ونِعمة السلامة في النفس والجسد، والولادة في جوٍّ صالحٍ وبيئةٍ نظيفة، وغيرها من المواهب التي يهبها الله لكثيرٍ من البشر، دون أن يكون لهم يدٌ فيها، فهم يولدون على هذه الحال، ومن المأمول منهم طبعًا، بل من الواجب عليهم، أن يقدّروا هذه النعم كافّةً، وأن يحسنوا استثمارها في رضا الله عزّ وجلّ، مؤدّين بذلك حق شكر النعم.

أما الموهبة التي يمتاز بها إنسانٌ دون آخر، فهي نوعان، ماديةٌ ومعنوية.

أما الموهبة المادية فهي سريعة الظهور لا تحتاج لاكتشاف، كالجمال الفائق مثلا، أو القوة البدنية، أو التميّز في إحدى الصفات الجسدية، كطول القامة واعتدالها، ولون الشعر أو البشرة أو العينين... وإن انعكاس تلك الموهبة على الإنسان تتفاوت بين شخصٍ وآخر، بحسب التربية والوعي الدينيّ والخلقيّ، فنرى بعض الناس يتملّكه الغرور والشعور بالتفوّق على غيره، وقد يصل إلى حدّ النرجسيّة، أي الحبّ المفرط للذات والإعجاب بها، بينما يكون البعض الآخر معتدلًا فاهما لكونه غير ذي منّةٍ في هذه الموهبة، بل هي من أنعم الله عليه، فيتعامل معها كأمرٍ واقعٍ يسرّه لكنه لا يميّزه! ويبقى هناك القلة الذين لا يلتفتون إلى تلك الموهبة إلا بقدر ما يشكرون الله عليها، وقد يرون فيها بلاءً من نوعٍ خاصٍّ ينبغي الالتفات إلى تجنّب عواقبه... فالغرور الذي ينجم عن إعجاب الإنسان بصفاته الجسدية الموهوبة، يؤدّي به إلى تكوين شخصية سلبيةٍ تنتظر الإعجاب من الجميع دائمًا، وتشعر بأنها محور اهتمام الآخرين، بل يجب أن تكون! وهنا تتحوّل الموهبة من نعمةٍ إلى نقمة، إذ أسيء التعامل معها واستثمارها من قبل صاحبها.

وإن للمواهب المادية جانبا آخر أكثر أهميةً، يمكن أن يحوّلها إلى نقمة،فتحطّ من قدر الإنسان بدل أن ترفعه، وتغرّر بصاحبها وتأخذه إلى مهاوي المعاصي والهفوات وحتى الكبائر، فكم من جميلةٍ اغترّت بجمالها واستخفّت بسترها وعرضت جمالها على أعين الناس، فأفسدت نفسها وعرّضت غيرها للنظر الحرام، وكانت وسيلةً من وسائل الشيطان. وكم من رجلٍ حسن الشكل والمنطق استطاع أن يغوي ضعيفات النفوس، وكم من صاحب قوةٍ بدنيةٍ أثار المشاكل واستقوى على الضعفاء واستبدّ بهم... إن كلّ هؤلاء قد حوّلوا نعمهم إلى نقمة، وأساؤوا استخدام مواهبهم في ما يرضي الله ويقرّبهم منه، وهو الهدف الأساس الذي أراده الله لهم، فرسبوا في ميدان البلاء.

أما الموهبة المعنوية فهي تحتاج إلى مجهودٍ لاكتشافها وتنميتها ومن ثم حسن استثمارها، ذلك أنها توجد مغلّفةً بغلافٍ رقيقٍ يحتاج إلى مواقف محددةٍ لتكشفه وتظهرها للعيان.

فالذكاء الفائق وجودة الحفظ مثلًا، تظهر حين يستمع الطفل لما حوله من كلامٍ فيحفظه ويردده في سنٍّ مبكرة، ثم يغدو من المتميّزين في صفّه حين يصبح بعمر الدراسة، ويستمرّ ظهور الموهبة ونضجها وارتقاؤها طالما أن الإنسان يزوّدها بالموادّ الأولية التي تغذّيها، وهي تارةً معلوماتٌ علمية وتارةً أدبية، وأخرى ثقافية، وربما تكون دينية أيضًا، إن التفت الوالدان ثم المجتمع القريب إلى توجيه الطفل الموهوب نحو هذه الأمور واستثمارها فيها، كحفظ القرآن مثلًا.

وللرسم والنحت والفنون التشكيلية الأخرى مكانها في غمرة هذه المواهب المعنوية، التي تجعل طفلًا معيّنًا يمتلك يدًا طيّعةً وخيالًا واسعًا يستطيع أن ينجز فنونًا يعجز عنها كثيرون.

أما الكتابة ونظم الشعر وغيرها من الفنون اللغوية، فلا تقلّ عن غيرها من المواهب التي تنتظر اكتشافها واستثمارها، بل لعلها الأكثر خفاءً في شخصية الإنسان، إذ يحتاج اكتشافها إلى جوٍّ ثقافيٍّ ينعم بهذه المزايا، حتى يجد الطفل موهبته ويعمل مع والديه على إعطائها حقّها من الاهتمام والتنمية والتطوير.

وكما هو الحال بالنسبة للمواهب المادية، التي قد يحوّلها صاحبها إلى نقمةٍ عبر إساءة استثمارها، فإن المواهب المعنوية معرّضةٌ لإساءة الاستثمار أيضًا، ولعل هذه الإساءة تكون أخطر من سابقتها، لأن التأثير الذي تخلفه وراءها معنويّ، سلبًا أو إيجابًا، فكم من رسّامٍ اتّخذ من ريشته أداةً لرسومٍ فاضحةٍ تثير الشهوات، وكم من نحّاتٍ شكّل بإزميله تماثيل تُعبد، أو تجسّد المعاصي... وكم من شاعرٍ نظم الشعر في مدح الفاسقين، أو التعبير عن العواطف الرخيصة، أو وصف محاسن المرأة الظاهرة والخفية، أو جعله قيثارةً للشيطان يعزف عليها مغانيه، وكم من كاتبٍ أفسد النشء بقصصه الماجنة، وغيّر الحقائق بأفكاره المشوّهة... فأساء استخدام موهبته، التي أورثته قلمًا طيّعًا سيّالًا وكلمةً عذبةً أخّاذةً، ليدسّ السمّ في العسل...

إن الموهبة إذًا هي سلاحٌ ذو حدّين، يزوّد الله عزّ وجلّ به خلقه، فإذا أساؤوا فهمها واستغلالها كانت عليهم وبالًا ونقمة، أما إذا أدركوا الحكمة من وجودها واستشعروا شكر النعمة بمعناه الحقيقي، فإنهم سيراعون حرمات الله في كلّ ما وهبهم الله، وسيؤدون حقّ النعمة، وما حقّ النعمة إلا أن نعلم أنها من الله وإليه، وأنه ما أعارنا إياها إلا تفضّلًا منه وكرما، ولا فضل لنا إلا بمقدار ما نشكر، وأوجب الشكر على الموهبة أن تكون أداة صلاحٍ وإصلاح، يتنعم بها صاحبها ويحوّلها إلى نعمةٍ شاملةٍ له ولمن حوله، فينال بها حب الله ورضاه. 


العودة إلى الأعلى