الموهبة الفطرية بين النعمة والنقمة/ح1
الموهبة هي تلك الملكة الفطرية التي يهبها الله عزّ وجلّ للإنسان عند بداية خلقه، أي أنها تدخل في صميم بنيته الجسدية والنفسية والعقلية، لا يد له في وجودها الأساس غالبا.
والمواهب نوعان: جسديةٌ ونفسية، أي ماديةٌ ومعنوية، بمعنى أنها قد تكون صفةً جسديةً تظهر على الإنسان ويكتشفها هو ومن حوله مباشرةً، وقد تكون صفةً باطنيةً تظهر عليه بفعل عوامل أخرى، ويتمّ اكتشافها حين يتعرّض لمواقف تفجّرها وتخرجها إلى حيّز الملاحظة.
ومع أن المواهب الجسدية هي أمورٌ ذات أهميّةٍ في حياة الإنسان، وهي جديرةٌ بالبحث والتحليل أيضا، إلا أن محور هذه المقالة هي المواهب المعنوية، لأنها أكثر خفاءً وظهورا وتأثيرا في الإنسان ومن حوله، ولعل سياق الحديث يمكن أن يقودنا للتعريج على المواهب الجسدية المادية أيضًا حيث يلزم.
لقد اختلف العلماء في أصل الموهبة المعنوية، وهل هي انعكاسٌ لما يعيشه الإنسان في طفولته بفعل بيئته القريبة التي يتفاعل معها، أم هي أمرٌ متأصّلٌ في نفسه ينبعث منها أولا؟
يولد الطفل وهو يحمل في ذاته بصمة شخصية متميّزة، تصنع هويّته وتضع أساسا لحياته المستقبلية.
إن موهبة الإنسان التي تولد معه، هي نوعٌ من الاستعداد الفطريّ لأمرٍ ما، كموهبة الرسم مثلًا، التي تجعل الطفل منجذبًا إلى عالم الرسم والألوان أكثر من أترابه، حتى إذا وجد المحيط المناسب برع واستخدم موهبته في بلورة شخصيته المتميّزة، أو كموهبة نظم الشعر، إذ نجد الطفل منشدًّا للشعر وسماعه منذ نعومة أظفاره، حتى إذا أتيحت له الفرصة بدأ بنظمٍ بسيطٍ راح يزداد براعةً وتألّقًا مع مرور الأيام وصقل الموهبة بالتعلّم والممارسة. ومثلها موهبة الكتابة أو حتى جودة الحفظ والقدرة على التحليل والتركيب، فكلها مواهب تسهم في رفع مستوى الطفل الفكري، إذا ما أتيح لها الجو المناسب الذي يسمح بنضج الموهبة وارتقائها.
بل إن كثيرا من المهارات الفكرية والجسدية قد يعود إلى موهبةٍ يتحلّى بها المرء في صميم تركيبته الفطرية، ولعل هذا ما يفسّر براعة البعض دون البعض الآخر فيما يقومون به من أعمال، مع تعرّضهم لنفس المؤثرات في المجتمع المحيط.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: "كيف يكتشف الإنسان موهبته؟ وكيف يتعامل معها؟"
إن الشقّ الأول من السؤال يتعلّق بمعرفة الذات، فأن تكتشف موهبتك، معناه أن تحاول مراجعة ما تحبّ وما تكره، وما تميل إليه وما تنفر منه من نشاطاتٍ فكريةٍ أو جسديةٍ، فإذا اهتديت إلى مكمن الموهبة عندك، صار لزاما عليك أن تعمل على تنميتها واستثمارها لتحصل من خلالها على النتائج المثلى، التي قد تحدّد مسارك في الحياة، وقد تكون بمثابة هوايةٍ مفضّلةٍ لك تبعث السعادة إلى قلبك، والراحة من متاعب الحياة... وقد تحملك مسؤوليات الحياة على إهمال موهبتك، فتتراكم فوقها الهموم وتغطيها الغيوم، حتى تُنسى أو تكاد... فتفقد بفقدك لها عاملًا من أهم عوامل الراحة النفسية التي تطلبها دائما.
هنا يأتي دور المنطق السليم والرأي الصائب في التعامل مع النعمة والحفاظ عليها والشكر للباري على منحها، فهل يجدر بالإنسان أن يهمل ما أنعم الله به عليه؟ بل هل يحقّ له ذلك؟
إن لكلّ هبةٍ إلهيةٍ حكمةً مخفية، لا يدركها الإنسان إلا إذا عرف قيمتها وعاشها، إذ أن خلق الإنسان بحدّ ذاته معجزةٌ ربانية، فكيف لا تكون المواهب الفطرية معاجز كذلك؟
إن إيماننا بأن الله لا يزرع فينا بذرةً إلا كان لها دورٌ في حياتنا الدنيا، يجعلنا ننظر إلى هذه الهبة بعين الشكر أولًا، وبعين الرعاية ثانيا، ولو أن كل إنسانٍ راعى حسن خَلقه واستثمر كل قدراته واحترم إرادة الله في كيانه، لتضاعفت النعم أضعافًا مضاعفة، ولعاش الإنسان الرضا والتفاؤل، ولاستطاع أن يكون أكثر شكرًا لباريه، إذ يعلم أنه لم يحرمه من عطاياه، بل هو جعلها في قلبه لؤلؤةً تحتاج لمن يفتح صدفتها ويمسح عنها الشوائب، ويصوغ منها عقدًا فريدًا متجدد الجمال لا مثيل له.
ومع أن الحديث في هذا الشأن يطول، إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه هما أمران: أولهما أن الإنسان مهما كان لا يخلو من موهبةٍ ما، في مجالٍ ما، وليس عليه إلا الإيمان بها واكتشافها والعمل على استثمارها، وثانيهما أن الموهبة هي نعمةٌ بلا شك، ولكنها قد تتحوّل إلى نقمةٍ إن أسيء استخدامها في طاعة الله، وهذا ما سنقوم بمعالجته في مقالنا المقبل إن شاء الله، فنسأل الله القبول والتسديد، وأن يجعلنا من العاملين في نعمه بما أمر وأراد، إنه سميعٌ مجيب.