مهرجان ربيع الشهادة : أفق عالمي ورسائل

طوت كربلاء فعاليات مهرجان ربيع الشهادة في دورته السابعة عشر، وراكمت العتبة الحسينية المقدسة بذلك منجزا عظيما في سجل إنجازاتها الكبرى والنوعية.

 المهرجان الذي يتزامن مع الولادات الميمونة لأبطال كربلاء؛ الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس وابنه الإمام زين العابدين عليهم السلام؛ ليس مهرجانا خطابيا بل هو لحظة تأسيس وترسيخ لجملة قيم ثقافية موصولة بأهداف إسلامية كبرى في مفصل تاريخي دقيق وحاسم.

بتوجيه دعوة المشاركة إلى طيف عالمي متنوع مذهبيا ومتغاير دينيا، فإن مهرجان ربيع الشهادة يستند إلى رؤية وحدوية تنطلق من المشترك الديني والإنساني في أفق ترسيخه وتحويله إلى قاعدة عمل مشترك أمام التحديات الهائلة التي تواجه البشرية اليوم وهذا توجه يقع على النقيض من الرؤية الضيقة المتعصبة والتي تنتهي إلى نزعة عدمية لا تقوى على التعاطي مع استحقاقات الراهن العالمي في عناوينه الثقافية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية والبيئية. إذا فالمهرجان هو رسالة بخط عريض في تثمين وترصيد المشترك الديني والإنساني.

وفي تزامن مهرجان ربيع الشهادة مع الولادات الميمونة والاستناد إلى كربلاء ورموزها التاريخيين، تحرير لكربلاء من قيدها المذهبي - وهي لم تكن أبدا كذلك-، وإعادة قراءتها في سياق معاصرتنا للاستمداد من قيمها الخالدة وتحويلها إلى قوة دفع متجددة في صراعنا الوجودي مع قوى الشر والباطل والتسلط في العالم. فالحسين عليه السلام في سياق العولمة يجب أن يتعولم ويترسخ أكثر فأكثر في آفاق التطلعات الإنسانية الكبرى كرمز للتحرر وللكمال الإنساني، فالسوية الإنسانية تأبى الضيم وتتمنع من الركون للبغي والاستسلام للباطل ومهادنته، فذلك قبح أخلاقي بيّن ووضاعة وجودية شنيعة، والحسين عليه السلام نبهنا عبر ثورثه العابرة للتاريخ، إلى تلك المفارقة الكامنة في جدلية الحياة والموت كما في نهج أبيه عليه السلام "فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين".

وربيع الشهادة كعنوان هو تكثيف واختزال لقانون الصراع المسترسل بين الحق والباطل، وحيث تغدو الشهادة كذروة في الفداء عنوانَ انتصار ومفتتحَ الخصب الذي يتجلى ثمارا في الربيع الرمزي الذي يعقبها، فالشهادة بما هي سخاء بالدم في سبيل الحق تنتج على وجه الحتم، ربيعها. تقول العقيلة زينب عليها السلام لرمز الباطل والطغيان "وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد"، فالشهادة تقصر من عمر الطغيان، ولا تتوقف مفاعيلها حتى تخسف بعرش الطاغوت، فبحساب التاريخ ما بين كربلاء وسقوط دولة بني أمية يوما أو بعض يوم.

وكانت فلسطين حاضرة في المهرجان من أول كلمة الافتتاح التي ألقاها الأمين العام للعتبة الحسينية المقدسة، وأن تحضر فلسطين في كنف كربلاء وفي مهرجان ربيع الشهادة، ففي ذلك رسالة واستذكار، رسالة إلى قوى الشر والعدوان، بأن دابرهم مقطوع حتما وأن عدوانهم الإجرامي على غزة لن يكسر إرادة الشعب الفلسطيني ولن تردعه المجازر والإقترافات التي فاقت كل وحشية وبغطاء أمريكي وأوروبي عن التمسك بحقوقه التاريخية في التحرير والعودة وبناء الدولة بسيادتها على فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. وأما الاستذكار، فاستذكار حقيقة أن الشهادة تحيي القلوب وتبعث الضمائر من رقدة السهو، وتحرك إنسانية الإنسان كلما خمدت وتعيد الناس إلى اصطفاف حاسم لا خيار ثالث فيه بين أن يكونوا على جبهة الحق أو في جهة الباطل.

ورسالة مهرجان ربيع الشهادة حول فلسطين إنما توجهت إلى الذين استفاقت إنسانيتهم أمام عداد الشهداء الذين يرتقون على مدار الساعة في غزة، وحملهم ضميرهم على الانتصار للمظلوم، فهبوا منتفضين من قلب عواصم الاستكبار على تواطؤ حكوماتهم ومشاركتها في جرائم الإبادة.

وعلى مستوى الأديان كان الحضور المسيحي ملحما خلاّقا عن سعة العنوان الحسيني، المستوعب للكل من حيثياته المتكثرة، بل وفي كنف هذا العنوان حصل ضخ معنوي هائل في مجرى الحوار الإسلامي- المسيحي، توّج بلقاء ودود، بين ممثل المرجعية العليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي وبين ممثل الفاتيكان ورئيس مكتبتها الرسمية في روما المونسنيور أنجيلو فينتشنزو زاني حيث رسالة التسامح الديني وصيانة المكون المسيحي في العراق، وهو اللقاء الذي يجب اعتباره لقاءً مستئنفا عن اللقاء التاريخي بين آية الله العظمى السيد علي السيستاني والبابا فرنسيس في مارس من عام 2021.

المرفقات

العودة إلى الأعلى