صفحات مغيبة من التاريخ المعتدى عليه تفضحها القبور الناطقة

2024-02-18 12:43:23

ساقني العمل في العام 2013م الى زيارة باكستان، وفيها طفت على عدد من المراقد تعود لأهل البيت (عليهم السلام) وساقتني الهجرة القسرية من قبل الى سوريا عام 1980م وطفت على عدد من مراقد أهل البيت، ثم ساقتني الهجرة شبه القسرية إلى ايران ووفقنا للزيارة والدعاء عند مراقد لا تعد ولا تحصى لأهل البيت هذا كان في شرق العالم الإسلامي، وتوجهت الى غرب العالم الاسلامي وتوقفت عند مراقد أهل البيت في مصر والمغرب والسنغال، وبخاصة في مصر التي تضم قاهرتها عدداً كبيراً من مراقد الأولياء التي أضفت عليها قدسية خاصة، وبالتأكيد هناك مراقد مشرفة في الهند والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي القديم وفي شمال أفريقيا، وغيرها من البلدان، ربما أسعفنا الزمن مصحوبا بالصحة الجسدية والمالية لزيارتها.

د. نظير الخزرجي

ترى ما الذي تشير اليه هذه المراقد الكثيرة المتوزعة في انحاء العالم الاسلامي العربي والأعجمي؟ ولماذا يحترمها غالبية المسلمين ويعمل على تخريبها قلة قليلة؟ ما الذي يجعل أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) من فاطمة وعلي (عليهما السلام) يتنقلون بعيداً عن المدينة المنورة، قسراً أو طوعاً؟ وكيف وصلوا الى اقاصي الدنيا؟ وكيف رحلوا عن هذه الدنيا؟ هل يمكن أن نعتقد بكل هذه المراقد، وبعضها حديثة الاكتشاف؟ وهل لنا أن نصدق عائدية كل المراقد إلى أهل البيت (عليهم السلام)؟ أسئلة كثيرة دارت في ذهني وأنا اتفقد مرقد الشهيد (يحيى بن زيد الشهيد) في قرية ميامي في خراسان، الثاوي على قمة تلة، وذلك عام 1981م، وعادت الأسئلة قبل ثلاث سنوات وأنا أزور مرقد منسوب للسيدة رقية بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في لاهور بباكستان، وقبلها قبور أهل البيت في الشام وشمال أفريقيا.

هذه الأسئلة وغيرها، بالتأكيد أنها طافت في أذهان غيري ممن سلك مسلكي أو زاد بالتطواف على مدن متفرقة أخرى، وهي أسئلة مشروعة، لاسيما وأن بعض المراقد تم الاعلان عنها مؤخراً، وغير مستبعد أن يستحدثها البعض لأسباب مختلفة، ولطالما سمعت من موالين في بلدان تخلو من مراقد أهل البيت، أمنيتهم أن تكون في بلدانهم مراقد يرفعون عندها أياديهم الى الله بالدعاء، وقد وجدت بعض الشعوب البعيدة البديل، كما في الهند وباكستان، بأن أقامت مراقد رمزية للأئمة والصالحين من أهل بيت النبوة يتوجهون الى الله عندها بالزيارة والدعاء.

ولاشك أن زيادة عدد مراقد في أنحاء العالم، يكشف في أحد أوجهه عن كثرة نسل أهل البيت وتفرقهم في البلدان قسراً أو طوعاً، كما أن البعض غال في الحب فانتسب الى اهل البيت عن غير وجه حق، وبعضهم استسهل الأمر لأغراض وجاهية ومادية، وبعضهم ساقته نفسه الأمارة بالسوء للبس غير قميصه مستغلاً عواطف الموالين من أجل مصالح شخصية، وبعضهم تنفيذاً لمصالح أعداء أهل البيت(ع).

وقد صنع المحقق العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي معروفاً كبيراً عندما أفرد في موسوعته الفريدة (دائرة المعارف الحسينية) باباً من أربعة مجلدات متحرياً نسب الإمام الحسين (عليه السلام) ونسله، وتابع في الجزأين الأول والثاني نسبه (عليه السلام) في عشر طبقات، وفي الجزأين الثالث والرابع يتابع نسل الحسين (عليه السلام) ومشجراتهم حتى الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وتحت أيدينا الجزء الثالث من (الحسين نسبه ونسله) الصادر حديثاً (2015م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 582 صفحة من القطع الوزيري، يتابع فيه البحاثة الكرباسي نسل الإمام الحسين (عليه السلام) بدءاً من ولده المباشرين حتى الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).

أيام عصيبة

من يتتبع فروع المشجرة الحسينية في هذا الجزء من الموسوعة الحسينية، يكتشف حجم المعاناة التي مرّ بها أهل البيت على يد السلطات المحلية والمركزية، ناهيك عن أتباعهم ومواليهم، ما جعل الكثير منهم يسيح في الأرض بعيداً عن العاصمة ومركز القوة تجنباً للاعتقال والسجن والموت صبراً.

والمحقق الكرباسي وهو يتسقط المعلومات الدقيقة عن نسل الإمام الحسين عبر أبنائه من البنين والبنات، كشف لنا مشاهد مروعة عن التصفيات الجسدية لأبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) في العهدين الأموي والعباسي، ولذلك فلا نستغرب ما نسمعه ونشاهده اليوم من أعمال قتل وذبح وحرق وصلب وجلد بشعة ترتكب باسم الاسلام وباسم الرسول الأكرم، فالخلف الطالح يجددون ما فعله السلف الكالح، وهم لهم أسوة وقدوة، فالذي لم يقرأ التاريخ أو عاش الغياب التاريخي يرى فيما يفعله أدعياء الإسلام جديداً على الحياة اليومية، ويحاول جهده مخلصاً ابعاد التهمة عن الإسلام، وهو لا شك جاد فيما يفعل، لأن الإسلام في واقعه هو السلام والوئام، لكن في واقع الحال يحفل تاريخ الشعوب الاسلامية ومن حكم باسمها بصفحات سوداء مظلمة، وبخاصة في العهد العباسي وما لحق بأئمة أهل البيت من أذى، وتفرق الموالين في أصقاع الأرض، وهي سياسة ظالمة قائمة حتى يومنا هذا في بعض البلدان المسلمة تمارس الطائفية البغيضة والقتل المنظم تحت شعار حماية مكتسبات السلف.

والأمثلة الواردة كثيرة، فمنها على سبيل المثال: يحيى بن عبد الله المحض ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي ذكره الكرباسي في معرض الحديث عن نسل الإمام الحسين (عليه السلام) من ابنته فاطمة الوسطى زوجة عبد الله المحض، فيحيى هذا المشهور بيحيى صاحب الديلم: (توفي سنة 175هـ في حبس هارون الرشيد العباسي في بغداد حيث وضعه في بركة من الوحل فمات جوعاً، وقيل إن الرشيد بنى عليه اسطوانة فقتله، وقيل حبسه في دار السندي بن شاهك فيه نتن، وردم عليه الباب حتى مات)...

ومن خلال قراءة للعشرات من أسماء المدن التي وردت في هذه الجزء والتي فيها مراقد لأهل البيت أو نسلهم يتضح أن العراق وبلاد فارس والجزيرة العربية ومصر من أكثر البلدان التي تتواجد فيها أسر علوية، ولشدة الظلم الذي لحق بها فإن عدداً غير قليل منها أخفى النسب فضاع على الأبناء مع مرور الزمن وأكثرها احتفظ بالنسب دون الإعلان عنه لحين توفر ظروف مناسبة، على أن البعض انتحل النسبة جزافاً

والتاريخ كاد أن يغرق في ظلمات بحره اللجي، لولا النهضة الحسينية، كما يقول البروفيسور الفيتنامي مان هايي نجوين (Pro. Man Hie Nguyen) في مقدمته الأجنبية للجزء الثالث من "الحسين نسبه ونسله": (لاشك أن التضحية الفريدة من الإمام الحسين (عليه السلام) وأتباعه المؤمنين هي التي هزت العالم الإسلامي وأيقظته من سباته، حتى اضطر المسلمون لأن يسألوا أنفسهم، لماذا يُقتل حفيد الحبيب الرسول الكريم بمثل هذه الوحشية، وهذه التساؤلات المشروعة كشفت للشعب الطبيعة الحقيقية ليزيد وأنصاره. إن تحدي الإمام الحسين لحكم يزيد حتى تقبل الموت والشهادة قد غيّر وجه العالم إلى الأبد وجعل الأمة تملك مصيرها وتحدد بوصلة حركتها).

ورغم أن البروفيسور نجوين ليس من المتدينين، ولكن فطرته الإنسانية تقوده الى القول: (لقد جاء الإمام الحسين الى العراق وحط رحاله في كربلاء، من أجل بناء نظام عادل جديد. وجسّد بشكل عملي مفهوم العدالة الراشدة، واضعاً شهوة المال والسلطة تحت سلطنة العقل، وذلك من أجل حياة متوازنة تحفظ كرامة الإنسان في جو من الأمن والأمان والسلام، حياة هانئة لكل البشرية وفي كل زمان ومكان).

ولأن القلم هو بضاعة صاحب المقدمة الفيتنامية الذي يعيش في العاصمة هوشي منه (Ho Chi Minh)، فإنه يقدر ما خطه يراع الكرباسي في الموسوعة التي بلغت نحو (900) مجلد، ولذلك ختم مقدمته بالقول: (أذهلني ما كتبه الدكتور الكرباسي في الموسوعة الحسينية، وقد عقدت الدهشة ناظري وأنا أجد الكرباسي قد بدأ الكتابة منذ اكثر من 25 عاماً، وهذا انجاز حقيقي ليس لأي إنسان أن يحققه بمفرده كما فعل الكرباسي في الكتابة عن شخصية نبيلة كالحسين، وهي موسوعة يظهر فيها التحقيق والتوثيق بشكل جلي مما جعلها محط قبول الجميع)، وهي حقيقة يدركها حتى من له أدنى نصيب من مداد القلم.


العودة إلى الأعلى