الثقافة الملتزمة

: كفاح وتوت 2024-02-15 11:20

قابلني أحد الأدباء لم أره منذ فترة فسألته عن أحواله وعن آخر إنجازاته الثقافية قال لي متذمراً بالحرف الواحد:لقد تركت الثقافة! قلت مندهشاً: "كيف يكون ذلك؟"، فردَّ عليَّ قائلاً:

"بماذا تفيد الثقافة؟ وما الذي تحققه للمثقف وللآخرين"؟، صدمت حقاً وتأملت قوله هذا باهتمام كبير وقلت في نفسي ما الذي جرى لهذا الأديب المثقف ليصرّح بهذا القول ويفصح عن اللاجدوى التي استحوذت على ثقافته وأدبه وهذا ما دعاني لكتابة هذا المقال..

من البديهي أن هناك كمّاً من الثقافات في الغرب ومثلها في الشرق.. ثقافات اختلفت ألوانها وأهدافها ولا يخفى علينا أن هناك إنجازاً ضخماً أنجزته البشرية في مجال الأدب والعلوم والفنون ولحقب تاريخية متعاقبة.. ثقافات ارتقت بالإنسان وثقافات ما انزل الله بها من سلطان رمته الى هاوية.. والسؤال المطروح هنا هو.. ما الذي حققت كل هذه الثقافات للإنسان..؟ و هو المتلقي الأوحد في أنْ تقوّمه وتجعل منه إنساناً سويّاً فاعلاً ومؤثراً ومحصّنا ًمن العقد والآفات والتشتت والضياع.

إن الكثير من المثقفين ممن يستهويهم الترف الثقافي يتعكزون على ثقافات بعيدة عن واقعهم وعن مجتمعهم كالثقافة الغربية مثلاً وعدّها قمة ومثلاً أعلى للثقافات في العالم وأتساءل هنا:

ماذا أفادت هذه الثقافة أصحابها الأصليين من المفكرين والأدباء قبل أن يستفيد منها جمهور العامة؟ ولماذا اقترنت بعض الشخصيات الثقافية بسلوكيات غير أخلاقية ووصل الأمر الى البعض الآخر الى الشعور بالفراغ الكبير الذي يحيط بهم وبالغربة داخل النفس فقرروا إنهاء حياتهم منتحرين.

إنَّ الثقافة التي لا تفيد صاحبها كيف ستفيد الآخرين والمثقف الذي لا يتحلى بسلوكيات ترتقي به كإنسان أولاً فما جدوى ثقافته أصلاً وما جدوى الاحتفاء بها والتطبيل لها..؟ لماذا نستورد ولا نبتكر؟ ولا نعمل فننتج ونقول للعالم أننا موجودون...هذا تاريخنا وهذا إنجازنا.

إن العديد من المثقفين لا أدري لماذا يعزفون ويبتعدون عن جذورهم وأصالتهم ويعدّون الرجوع الى أصولهم حالة من حالات التخلف فتصبح الاساطير ديدنهم وشغلهم الشاغل متناسين أن الكثير من علوم القرآن الكريم وعلوم أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) ورجالات الفكر والعلماء المسلمين على مرّ التاريخ كانت الأساس للتقدم العلمي في العالم وأنّ الكثير من المستشرقين قد تأثروا وتعاطفوا مع الثقافات الشرقية وعلى رأسها الحضارة الإسلامية والتمجيد برجالها الذين كان لهم الدور الكبير في توهجها وانطلاقها الى العالم وتناسوا أيضا أن العديد من الحضارات في التاريخ والتي أوردها القران الكريم قد وصلت الى ما وصلت اليه من رقي وتقدم ولكنها سرعان ما تناثرت وأفِلت كونها ابتعدت عن أهم شيء في الوجود وهو التوحيد والإيمان بوجود الخالق الأوحد.

إن الاطلاع والتعرف على ثقافات العالم أمر لا غبار عليه لا لأجل إعلان التبعية والانتماء لها؛ بل لاكتساب الخبرات والتجارب ولمعرفة الإيجابيات والسلبيات وما جرى وما سيجري ومن منطلق الآية الكريمة {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ولابد أن نؤكد ونتساءل:"ما هو دور المثقف والأديب في قضية غاية في الأهمية وهي العمل على ترسيخ ثقافة أصيلة لا تزعزعها الأهوال ولا تغيرّها الأزمان, والاعتقاد بحتمية أنّ كل ثقافة لا تخدم الانسان زائلة الا إذا كانت ملتزمة دينيا وأخلاقياً واجتماعياً, وأنّ الضرورة التاريخية ترمي على أكتاف المثقفين مسؤوليات كبيرة وتحتّم عليهم في أن يعيدوا حساباتهم والرجوع الى التاريخ والغور في أعماق كنوزه الثقافية وتراثه الأصيل وبدون ذلك ليس لترفهم ومجدهم الثقافي أية قيمة فتكون ثقافتهم التي أحرقوا أعمارهم بها شكلية غير مرتبطة بمشاكل الإنسان الحقيقية وبالواقع الذي يعيشونه وضائعة متخبطة لا جدوى منها مادامت لا تحمل أفكاراً راسخة ولا تقوّم سلوك الإنسان ولا تحثّه على العمل الجاد ولا تكون له دليلاً الى طريق الهداية والحق المبين ولا تقوّي الصلة بينه وبين خالق الكون ومبدع الأشياء, وواهب العقل والجمال ليكون لوجود الإنسان هدف يتجسد من خلال اقتران الجانب النظري بالجانب العملي عند ذلك سيكون الفكر منتجاً وأكثر رسوخاً في الواقع وله قدسية وقيمة عليا تتناقله الأجيال فتتحدد ملامح المجتمع وتوجهاته وآفاقه نظرياً وعملياً يقول عَزّ من قائل: بسم الله الرحمن الرحيم {اقرأ باسم ربك الذي خلق *خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم*الذي علَم بالقلم* علَم الإنسان مالم يعلم}..

فكم علينا أن نسمو على ثقافات وأفكار تسللت الينا فمسخت بعض إنسانيتنا.. كم علينا أن نتألق بتجسيد ما نقرأ وما نكتب بسلوكياتنا وأعمالنا التي تحدد هويتنا وتحصّن وجودنا الفكري والحضاري في عالم هيمنت عليه الآفات لتفتك بأقوم وأعقل المخلوقات وهو الإنسان وبخلاف ذلك فكل مانتلقّاه من مفاهيم ثقافية بعيدة عن هدفية وجودنا ترفاً ليس الا ومصيرها الى الزوالوما كان لله أبقى وأنفع.

 



العودة إلى الأعلى