الصروح العلمية في كربلاء .. بين تاريخ حافل بالعطاء وصراع البقاء

2024-02-10 11:07

مدينة كربلاء المقدسة قبلة العلماء ومهوى الانفس كانت ولا تزال تتميز بالعديد من المميزات التي قد تشاركها بها مدن مقدسة أخرى, فهي منذ أن نزلها الإمام الحسين (عليه السلام) باتت حضارة انسانية يستقي من مناهل واقعة الطف فيها الفضيلة والتضحية ومعانٍ ذو قيم عالية يتصدرها الاصلاح، ومما تميزت به كربلاء الحضارة هو المدارس العلمية التي بُنيت في فترات متفاوتة بمواصفات معمارية رفيعة تتناسب مع هوية المدينة الدينية والعلمية، حيث ترك التجانس المتعدد بين أهالي كربلاء بصمة للحضارات العمرانية المتنوعة في تلك المدارس لا يزال أثره واضحاً في مباني الأزقة القديمة في كربلاء, رغم أن الكثير منها هُدّمَ من قبل السلطات المتعاقبة التي حكمت العراق، فكان ذلك تقويضاً لتراث حضاري وعلمي وإنساني لا يعوّض.


ومن أشهر المدارس التي عرفتها كربلاء خلال تاريخها العلمي:

مدرسة السردار حسن خان

من المدارس المهمة في كربلاء شُيّدت عام (1180هـ ــــ 1767م), من قبل السردار حسن خان القزويني, وكانت في وقتها أكبر مؤسسة علمية في كربلاء قل نظيرها في المدن المقدسة, وتقع في الزاوية الشمالية الشرقية لصحن الإمام الحسين (عليه السلام) وقد تخرج منها كبار العلماء والمفكرين والمصلحين المسلمين أبرزهم المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني, والعالم الكبير الشيخ شريف العلماء المازندراني. كما درّس فيها كبار العلماء والمراجع خلال القرنين الأخيرين, وكانت تحتوي على سبعين غرفة, وعدة قاعات للدروس, وكُسيت جدرانها بالزخارف الهندسية تعلوها آيات قرآنية منقوشة بدقة متناهية, وقد انفق السردار أموالاً كبيرة في إنشائها، وقد تعاقب على تولية إداراتها علماء أجلاء كان آخرهم السيد عباس الطباطبائي. هُدّم قسم من هذه المدرسة عام 1948م, وفي عام 1991م لم يبق لها أثر.

مدرسة السيد المجاهد

وتقع هذه المدرسة في سوق التجار الكبير, وهناك وثيقة بالوقف الخاص بها تشير إلى أنها بُنيت عام (1270هـ), وقد تخرج منها علماء كبار أمثال السيد محمد باقر الطباطبائي, والسيد محمد علي الطباطبائي, والسيد مرتضى الطباطبائي الذين ينتسبون لبيت السيد علي الطباطبائي (صاحب الرياض) ومن أشهر أساتذة هذه المدرسة الشيخ محمد علي سيبويه والشيخ عباس الحائري وقد هُدّمت هذه المدرسة سنة (1980م) بسبب فتح شارع بين الحرمين.

مدرسة الصدر الأعظم النوري

أنشأ هذه المدرسة المرجع الديني الكبير الشيخ عبد الحسين الطهراني المتوفى سنة (1286هـ) والذي سكن كربلاء عام (1280هـ), حيث أوكل إليه الملك القاجاري في إيران مهمة تعمير وترميم العتبات المقدسة في كربلاء والكاظمية وسامراء, فأنفق الطهراني على بناء هذه المدرسة من ثُلث الإرث المتبقي من الأمير الإيراني الميرزا تقي خان (الصدر الأعظم) المقتول سنة 1268..

المدرسة الزينبية

سميت بهذا الاسم لوقوعها بجانب باب الزينبية, وكان أبرز من تولى مهمة التدريس فيها الشيخ جعفر الهر, والفقيه الكبير الشيخ محمد الخطيب, وهي من المدارس التي تولاها الشيخ محمد تقي الشيرازي وبعده نجله الشيخ عبد الحسين الشيرازي, ونتيجة لضرورة التوسعة تم اضافة الارض التي كانت مشيدة عليها الى الشارع المحيط بالروضة الحسينية عام (1368هـ ـ 1948)م.

وتشير المصادر التاريخية ان كربلاء المقدسة كانت تعج بطلاب العلم والشباب الواعي الذي كان حريصاً على حضور حلقات الدروس العلمية والنهل من المواضيع الدينية والأدبية والفلسفية والفكرية التي كانت تطرح فيها، وعقدوا حلقات الذكر والرواية عند القبر الشريف.

المدرسة الهندية الكبرى

وتشير وثيقة الوقف الخاصة بهذه المدرسة إلى أنها أُنشئت في أواخر القرن الثالث الهجري, وتقع في زقاق الزعفراني, وتتألف من طابقين يضمّان (22) غرفة, واحتوت أيضاً على مكتبة عامة عُرفت باسم (المكتبة الجعفرية), تقوم بنشاطات دينية منها إصدار نشرات وكراسات اسبوعية ودورية تعنى بـــ (أجوبة المسائل الدينية).

كما تأسس في هذه المكتبة (مكتب رابطة النشر الإسلامي), ومن انجازات هذا المكتب طبع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة من الكتب المهمة وتوزيعها في دول إندونيسيا والمغرب العربي وليبيا وبعض الدول العربية الأخرى ودول الخليج.

مدرسة البادكوبة (الترك)

تأسست عام (1270هـ) وفقاً لوثيقة الوقف الخاصة بها, وتحتوي على ثلاثين غرفة, ومكتبة زاخرة بالكتب والمخطوطات القيمة, كما كانت تصدر منشورات إسلامية ثقافية منها: (منابع الثقافة الإسلامية), وكان يتولى مهمة التدريس فيها العالم المحقق الشيخ محمد الشاهرودي, والشيخ محمد الكرباسي, وقد أزيلت هذه المدرسة سنة (1980)م.

مدرسة البقعة

وتقع في شارع الإمام علي (عليه السلام) وتتألف من طابقين يضمّان عشرين غرفة, وأبرز من تخرجوا منها من العلماء الأعلام السيد محسن الكشميري, والشيخ عبد الرحيم القمي, والسيد مرتضى الطباطبائي, وكانت تصدر عنها مجلة (صوت المبلغين) وهي مجلة فكرية إسلامية, هُدمت هذه المدرسة عام (1980)(دام عزه) وكانت تقام فيها حلقات تعليم القرآن الكريم وترتيله في شهر رمضان المبارك.

المدرسة السليمية

أسسها الحاج محمد سليم خان الشيرازي عام (1250هـ ــ 1834م)، وقد جددها المرجع الديني السيد مهدي الشيرازي سنة (1370هـ ــ 1951م)، وتقع هذه المدرسة في زقاق جامع الميرزا علي نقي الطباطبائي, وأبرز أساتذة هذه المدرسة العالم الفقيه المحقق الشيخ يوسف الخراساني, والعالم محمد طاهر البحراني, والمفكر الإسلامي الكبير الشهيد السيد حسن الشيرازي، ومن نشاطات هذه المدرسة إصدار مجلة إسلامية فكرية باسم (الأخلاق والآداب) ومجلة (ذكريات المعصومين).

مدرسة الميرزا كريم الشيرازي

أنشئت عام (1287هـ ــ 1870م), وتنص لوحة تذكارية في مصلى هذه المدرسة على أنه أعيد بناؤه وتجديده من قبل السيد علي محمد الموسوي الشيرازي عام (1308هـ ــــ 1891م), وتقع هذه المدرسة في محلة العباسية الشرقية, وهي مدرسة كبيرة تولى إدارتها والتدريس فيها الخطيب الحسيني الشيخ عبد الزهراء الكعبي, والشيخ محمد علي الخليق.

المدرسة المهدية

شيدها الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب كتاب (كشف الغطاء) سنة (1284هـ ـــــ 1867م), وتتألف هذه المدرسة من طابقين ويسكنها طلبة العلوم فيها بينهم من الدول الإسلامية, ومن أبرز أساتذتها الشيخ حسين البيضاني, والشيخ محمد شمس الدين, والشيخ علي العيثان البحراني, والشيخ عبد الحميد الساعدي.

المدرسة الهندية الصغرى

شيدتها السيدة (تاج محل) هندية الاصل وكان ذلك عام (1300هـ ــ 1883م), وأوقفتها على السيد علي نقي الطباطبائي كما تنص على ذلك وثيقة الوقف الخاصة بها، وكان يسكنها طلبة العلوم الدينية من الأفغان والهنود، ومن أبرز أساتذة هذه المدرسة السيد محمد حسين الكشميري, والسيد مرتضى الطباطبائي, والسيد مرتضى الواجدي.

مدرسة ابن فهد الحلي

وتقع في شارع باب قبلة الإمام الحسين (عليه السلام) بجانب مرقد ومزار العالم الشيخ أحمد بن فهد الحلي الأسدي, وتحتوي على مكتبة عامة باسم (مكتبة الرسول الأعظم), وهي ذات طابقين ضمت أربعين غرفة, يسكنها طلبة العلوم الدينية, وجددت هذه المدرسة بأمر السيد المرجع محسن الحكيم عام (1383)هـ.

مدرسة البروجردي

أسسها المرجع الديني الكبير السيد حسين البروجردي المتوفى عام (1380هـ), وكانت آية من آيات الفن المعماري والطراز الهندسي البديع, وتحتوي على عشرين غرفة, وكانت ذات نشاط علمي ديني واسع.

مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)

 شيدها السيد عماد الدين محمد طاهر البحراني عام (1381ه ــــ 1961م), وتقع في محلة باب الخان, وقد جعل مشيدها فيها مكتبة عامة, وكانت تصدر عنها الكتب والكراسات ذات الطابع الديني التثقيفي.

مدرسة الخطيب

أنشئت عام (1357ه ــــ 1937م), على يد العالم الفقيه الشيخ محمد الخطيب, وتقع في محلة المخيم وكان يدرّس فيها مبادئ اللغة العربية والعلوم الدينية.

المدرسة الحسنية

مساحتها (400) متر وتضم (28) غرفة أسسها الشيخ حسن النائيني سنة (1388ه ــ 1968م), وعُرفت هذه المدرسة بنشاطها الواسع في دراسة الفقه, والأصول, وعلم المنطق, والأخلاق, وتفسير القرآن, وقواعد اللغة العربية من نحو وصرف..

مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)

وتقع في محلة العباسية الغربية وقد تولى عمادتها السيد مرتضى القزويني ثم السيد مرتضى الطباطبائي.

ولم تقتصر الدراسات العلمية والدينية في كربلاء على هذه المدارس رغم أنها كانت المحور الرئيسي الذي تدور حوله هذه العلوم, بل كانت جذوة علمية متوهجة, فقد كانت حلقات الدرس والبحث والمناظرة قائمة على قدم وساق, وكانت تعقد في غرف وصالات صحن الروضتين الحسينية والعباسية وفي الحسينيات, والجوامع, وبيوت العلماء, والمراجع, والأساتذة، وبقيت حلقات الدروس في كربلاء بعدها تبرز وتنحسر بفعل السياسات المتفاوتة التي مرت على الأمة الإسلامية.

مدرسة شريف العلماء المازندراني

تأسست بمبادرة من المرجع الديني السيد محسن الحكيم وجعلها وقفاً على طلبة العلوم الدينية في كربلاء والنجف عام (1384هـ). وتقع هذه المدرسة في زُقاق (كدا علي) المتفرع من شارع الإمام الحسين (عليه السلام) الرئيسي بجانب مرقد شريف العلماء الشيخ محمد مهدي المازندراني, وهي ذات طابقين وتحتوي على (22) غرفة يسكنها طلبة العلوم من الدول الإسلامية.

وتصدّرت كربلاء في عهد الشيخ المازندراني الحركة العلمية في العالم الإسلامي وبلغت الذروة في تاريخها العلمي بفضل جهوده الكبيرة العلمية والفقهية التي بذلها، حيث رفد الحوزات العلمية الشريفة بأبحاثه وتقاريره الفقهية والأصولية حتى أصبحت كربلاء منارة للعلم وقبلة للعلماء وطلاب العلم، حتى قال الأستاذ نور الدين الشاهرودي في كتابه (تاريخ الحركة العلمية في كربلاء) تحت عنوان "حوزة كربلاء على عهد شريف العلماء): (في عهد الرئاسة العامة لشيخ العلماء ومربي المجتهدين ومعلم الفقهاء الفحول المولى محمد شريف بن المولى حسن علي القبيسي المازندراني الحائري المعروف بشريف العلماء، وأخذت الحوزة العلمية في كربلاء زخماً قوياً وطاقة إضافية نظراً لأن حلقات درسه وأبحاثه وتقريراته الفقهية والأصولية اجتذبت إلى مدينة كربلاء المئات بل الألوف من الفضلاء والطلاب والمبتدئين والمنتهين.

المرجعية الدينية العليا أولت لهذا الصرح العلمي اهتماما بالغا واوصت ممثلها سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي (دام عزه) بإعادة عمارتها وتشييدها من جديد، وانهت الملاكات الهندسية والفنية أعمالها في المازندرانية وافتتح صباح هذا اليوم السبت، الخامس من ربيع الثاني 1442هـ الموافق 21 تشرين الثاني ٢٠٢٠م المتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة سماحة الشيخ (عبد المهدي الكربلائي) مدرسة (المازندرانية الدينية) الواقعة خلف المخيم الحسيني في محافظة كربلاء المقدسة.

وقد حضر حفل الافتتاح حشد كبير من العلماء الأجلاء وأساتذة الحوزات العلميّة من النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وكذلك الأمين العام للعتبة الحسينية المقدسة السيد (جعفر الحسيني).

وقد شهد حفل الافتتاح كلمة لسماحة الشيخ الكربلائي، مما جاء فيها:

"لا يخفى على الجميع أنّ مدينة كربلاء المقدسة محطّ رحال العلماء والفقهاء، وعلى أرضها ازدهرت الحركة العلمية الحوزوية لقرون عديدة، وشهدت مدارسها ومحافلها الدينية ودروسها نتاج علماء عظام، مختلف العلوم الإلهيّة في مختلف اختصاصاتها، من الفقه والأصول وعلوم الحديث والتفسير، وغيرها..".

وأضاف الكربلائي في كلمته: "وقد تخرّج من هذه المدارس الحوزوية العشرات من أعاظم الفقهاء وجهابذة العلماء ونوابغ الشعر والأدب وأساتذة المنبر الحسيني، وإذا كان بعض الحكام الظالمين قد حاولوا أن يُضعفوا حركتها العلمية فإنّ أنوار وبركات سيد الشهداء عليه السلام تأبى إلاّ أن تبقى الحركة العلمية حيّةً مزدهرةً بالنشاط العلمي والديني والجهادي".

وتابع الكربلائي قائلاً: "ومن هنا كان لزاماً علينا جميعاً أن ننهض جادّين لنُعيد لتلك النهضة شيئاً من حيويّتها وحركتها التاريخية، فكانت هذه الجهود العلمية والعملية في إعادة بناء المدارس الحوزوية التي حاول النظام البائد طمسها ومحوها؛ وبحمد الله فقد ازدهرت الحركة العلمية من جديد بهذه المدارس وأساتذتها ودروسها، وكانت هذه المدارس وحلقات الدرس الحوزوي التي نشهدها اليوم في مدينة كربلاء المقدسة قد أعادت رونقها ونورها العلمي، وإن كان ذلك دون ما كانت عليها مدينة كربلاء المقدسة أيام ازدهارها العلمي والحوزوي".

وأوضح الكربلائي: "أنّ المدرسة أعيد تأسيسها وترميمها من قبل ممثلية مكتب سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظلّه الوارث) في مدينة كربلاء المقدسة".

بعدها قام المتولي الشرعي للعتبة المقدسة والوفد المرافق له بجولة في أروقة المدرسة، اطّلع خلالها على ما تضمّه من قاعات دراسية، وسكناً للطلبة وغيرها.


اعداد: حسين النعمة ـ وكالة كربلاء الدولية



المرفقات

العودة إلى الأعلى