عهد الإمام الحسن (عليه السلام)/ الحلقة 7/ضغط الجماهير والحل السلمي
المشكلة أنه حينما تؤثر الأمة السلم مع الذل، على الحرب مع العز، فإن مصير هذه الأمة يؤول نحو الهاوية والدمار الشامل. وكما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبه عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء وديّث بالصّغار والقماءة أو ضرب على قلبه بالإسهاب وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف...).
وليس ثمة شك في أن الإمام الحسن (عليه السلام) عاش بين مجتمع يهوى الراحة ويبحث عن الدعة يكره الحرب وحر السيف، ويتثاقل عن الجهاد في سبيل الله، ويخاف من زمجرة الجيوش ونقع العاديات..، ولذلك كان يعيش الإمام الحسن (عليه السلام) كالغريب في مثل هذا المجتمع، كما كان أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل، فهو أيضاً كان قد استصرخ ضمائر الناس لأن يهبوا للدفاع عن حريم الإسلام وحرمات المسلمين، فإذا بالقوم جامدون كأنما على رؤوسهم الطير، يخافون أن يتخطفهم الموت... فتسرق الأموال وتهتك الحرمات، ويذبح الرجال والنساء والأطفال وكأنما خليت الديار من أصحابها أو غشي أهلها الظلام حتى لا تكاد تبصر ما يرى في ساحتها!!
وطبيعي أن يكون مصير كل أمة تفضل الراحة على الحركة وتميل إلى التقاعس والتخلي عن النهضة والانتفاض والهروب من الواجب المقدس رغبة أو رهبة، فإن أولى مصائبها الذلة والهوان وقد مارس المجتمع في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) الحالات تلك بحذافيرها، حتى ظهرت فيه معالم المجتمع المهزوم الناكص، وسيطرت عليه حالة التوافق الاجتماعي باتجاه الاستسلام والتثاقل والتهرب من كل ما من شانه أن يقود إلى الحرب أو يمت إليها بصلة...
ولذلك أقفل الإمام الحسن (عليه السلام) راجعاً إلى الكوفة بعد أن مكث طويلاً في انتظار قدوم جموع من أهل الكوفة، وحينما بلغ اليأس حدّه عاد الإمام (عليه السلام) من معسكر النخيلة ودخل المسجد في الكوفة ثم خطب في الناس قائلاً: (أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلةٌ ولا قلة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم، وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم أصبحتم تصدّون قتيلين، قتيلاً بصفين تبكون عليه، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأره فأما الباكي فخاذل وأما الطالب فثائر، وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلنا منه وأغضينا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله بظبا السيوف).
فنادى القوم بأجمعهم: بل التقية والحياة، أو قيل فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية وأمضي الصلح).
فقال الإمام (عليه السلام): (يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ولو سلمت الأمر فأيم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني أمية، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنوا أنّ عليكم جيشاً ولو وجدت أعواناً ما سلمت له الأمر، لأنّه محرّم على بني أمية فأف وترحاً يا عبيد الدنيا).
ثم كشف الإمام (عليه السلام) في حديث عن طبيعة المجتمع وموقفه خلال فترة التحول السياسي والاستراتيجي بعد حرب صفين وحتى عهد الإمام الحسن (عليه السلام) يقول الإمام (عليه السلام): (خالفتم أبي حتى حكم وهو كاره، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله، ثمّ بايعتموني على أن تسالموا من يسالمني وتحاربوا من حاربني وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغروني من ديني ونفسي. يا أهل العراق: إنما سخي عنكم بنفسي ثلاث: قتلكم أبي وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي).
وبطبيعة الحال إن الوضع العام كان في غاية الخطورة كون المناخ الاجتماعي ظلّ متردياً للغاية... فالجماهير التي كانت من المفترض أن تصبح رأس مال يستثمر في الضغط على العدو ودرء مؤامراته وأخطاره ـ تتحول هذه الجماهير ـ إلى عامل خسارة، وعنصر ضعف، ومؤشر انهيار في حساب القوة الإسلامية.. فيكون القرار قرار العدو، وتكون الإرادة الحاكمة هي إرادة المستعمر، وبالتالي يكون الحكم هو حكم الغريب والمحتل!!
من هذا المنطلق نجد أن مثل هذه الأمة لا تنفع لقائد كالإمام الحسن (عليه السلام) والذي لم يوفر لنفسه جهداً أو طريقاً لاستنهاض الهمم وبعث الحميات في جماهير هذه الأمة إلا وبذلها، ولكن حقيقة الأمر هي أنه (لا رأي لمن لا يطاع)، فماذا يمكن أن يقوم به الإمام (عليه السلام) لجماهير تصر على العمل خلاف مصلحتها، وتسري في ركب سياسة ليست تابعة لقافلتها، وتتمسك بعرى قرارات صادرة عن غير قيادتها.. ولذلك فهي الأمة وحدها التي خسرت وستدفع ضريبة موقفها المسالم هذا قسطين من العذاب، أوله العار والذل، وثانية ظلم الحاكم المستبد.
ولقد أخبرهم الإمام الحسن (عليه السلام) عن ذلك من قبل حين قال لهم: (عزرتموني كما عزرتم من كان قبلي، مع أيّ إمام تقاتلون بعدي، مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبنو أمية إلا فرقاً من السيف؟ ولو لم يبق لبني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً، وهكذا قال رسول الله).
وبالرغم من أن الإمام (عليه السلام) في كلمته هذه وغيرها من الخطب والأحاديث يؤكد مراراً وتكراراً على حقه المشروع في قيادة الأمة، كما يكشف عن طبيعة البيت الأموي وما يدور في داخله من أطماع توسعية ومخططات للسيطرة والتسلط، إلا أن جماهير الكوفة عميت أبصارها عن معاينة الحق، بعد أن ربضت في أذهانها فكرة الاستسلام والركوع والانحناء للمستعمر الأموي.. وكيف يحصل على العزّ من له قابلية الذلّ؟ وهل تسرق كرامة من كان هو الحارس عليها؟ أم هل تنتزع إرادة من كان هو الكافل أمرها؟.. ولكن المجتمع الكوفي خرج من ذلك كله، فألقى بكلّه في حضن معاوية، ولذلك عاش ذليلاً وبقي مهاناً وظل مسلوب الإرادة، تماماً كالجسد الذي فقد المناعة التامة فلا هو قادر على الحفاظ على توازنه ولا هو قادر على تنمية نفسه أو درء أخطار الهجومات الموجهة إليه من الخارج.
أما الإمام الحسن (عليه السلام) فقد وجد بعد أن انكفأت الأمة عن نصرته، أن يصبّ اهتمامه على كيفية الحفاظ على بيضة الإسلام وهكذا حفظ الصفوة والبقية الباقية من أبناء الرسالة لضمان استمرارية الخط الرسالي وتفاعله في أوساط الأمة وعبر الأجيال لتبقى شعلة الإسلام متقدة وبالتالي الاطمئنان على ديمومة الدين في مراحل حياة المجتمع المختلفة.
وقد اجتمعت تلك الأسباب والتي مر الحديث عنها فكانت بمثابة عوامل الضغط التي دفعت بالإمام الحسن (عليه السلام) للوقوف أمام الخيار الصعب والذي اختاره مرغماً وهو خيار الصلح، ليكون المخطط الاستراتيجي بعد (الصلح) ينحى باتجاه الإبقاء على نواة الرسالة والإعداد للمرحلة القادمة.
المصدر: كتاب (الإمام الحسن... القائد والأسوة) للشيخ حسين سليمان سليمان