الامامة والتحدي القرآني
الشيخ ضياء الدين زين الدين
تحدى القرآن الكريم الناس برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)وشخصيته ككل، كمظهر أسمى من مظاهر الحق الذي لا ريب فيه، وكمال رحمة الله (تعالى) إلى العباد، ولطفه ورأفته بالإنسان، وكمجلى لسمو كلمته العليا حتى الأبد، تحدى كذلك بجوانب معينة من شخصيته .... بأخلاقه .. بعلمه .. بما ينطقه .. باستقامته المطلقة مع أمر الله ونهيه .. بقوته في الحق .. بمكانته عند الله .. بعصمته إياه من الناس .. إلى غير ذلك، ليصبح كل واحد من هذه الجوانب أفقاً شاخصاً من آفاق الإعجاز النبوي والقرآني معاً، ليحقق مختلف الغايات التي أشرنا إليها سابقاً، وبنفس المستوى، ولينبه الإنسان –في الوقت نفسه- إلى أن عدم قدرته على استيعاب منابع الإعجاز في هذه الشخصية العظمى ككل، لا يعيقه عن إدراك البعض منها، كما لا يعيقه عن اكتساب النور والهدى مما يستطيع الوصول إليه، ويتعامل معه من خلال خبراته وكفاءاته التي يحملها .
أما كيفية الوصول إلى تلك الجوانب، فطبيعي أن تكون من خلال الآثار والمواقف والكلمات وكل التراث الذي اكتسبته الإنسانية من موقع الرسالة، ومن شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو المظهر البارز لتلك الخصائص، وبها ورد التحدي القرآني، إذ ما كان لإعجاز الرسالة , ولا إعجاز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ولا إعجاز القرآن ليتحقق لو أن موقفاً أو سمة، أو كلمة سجلت على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)أبدى فيها الزمن شيئاً وهن فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن استيعاب دلائل الحق، أو عن شرائط الرسالة، أو استقامتها مع حكمة الله في الخلق والتشريع .
على أن الوقوف على الآفاق العامة لإعجاز القرآن في بيناته، وإعجاز الرسالة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)كفيل بتمييز الحقائق، وكما عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه) (1)
وطبيعي أن يمتد هذا التوجه الإسلامي العام مع الإمامة، ومع منتجبيها أيضاً، إذ أن مصدر العهد واحد وهو الله (تعالى) وحده، والخط واحد، والغاية واحدة، فطبيعي أن تتوحد الحجة الربانية فيها، وأن تتكامل دلائلها.
ولهذا فكما يمكن التعرف على الإعجاز الإسلامي في الإمامة من خلال أخذ هذا الخط –ككل-، وبما له من عموم وسعة وعلاقات مبدئية مع جميع أطراف الكيان الإسلامي وآفاقه، بشكل قد لا يسهل على الباحثين استيعابها بسهولة، يمكن التعرف عليه كذلك من خلال الوقوف على كل أثر من الآثار التي صحت عن أي من أولئك المنتجبين (عليهم السلام)، في أي ميدان من الميادين التي تناولتها حياتهم ومواقفهم، إذ ما كان لإعجاز ذلك الخط كله، ولا لإعجاز موقع الإمامة ذاته، أو القرآن الناطق به، أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)الصادع بأمر الله فيه أن يتحقق، لو وهن أي أثر، أو كلمة صدرت من أي أولئك المنتجبين عن شرائط الحق والهدى والنور الذي اصطفوا من أجله، أو قصرت عن تحقيق ذلك الإعجاز الإسلامي في موارده وآفاقه المتعددة .
وبهذه المواجهة السافرة بين إعجاز تلك الحقائق والعقول البشرية، تختصر الحجة الإلهية الطريق أمامها في إدراكها للهدى والنور الرباني في تلك البينات التي تحدت بها، لتجعل كل أثر من آثار الإمامة، وكل موقف من مواقفها، وكل كلمة من كلماتها، باباً متكامل الحجة، قائم البيان، دون حاجة إلى التعمق وراء ما تدركه الفطرة ببداهتها، أو إلى التطويل الذي قد يضيع معه الكثير من أطراف الحقيقة على طلابها .
وحين تتساوى العقول في إدراكها الفطري للحقيقة، فمن الطبيعي أن تتساوى كذلك في وعيها للمسؤوليات المترتبة على ذلك الإدراك، وفي ضرورة الوفاء بها تجاه ذلك الصرح الإسلامي العظيم، وتجاه منتجبيه الأوصياء المرضيين (عليهم السلام)، وخصوصاً بعد ما قدمناه في بداية الحديث، من موقع هذا الصرح وأصفيائه في بناء المعرفة الإسلامية ذاتها، وكون المواقف الإنسانية تجاهه –سلباً أو إيجاباً- هي المجاري الطبيعية للوصول إلى أي فكرة أو نهج أو حكم ينتسب إلى الإسلام .
** ** **
إعدادات لتطبيق النهج القرآني
ولكن ماذا لو أراد المرء الدخول في تطبيق النهج القرآني ؟، وما الإعدادات التي يحتاجها لذلك ؟ .
في الإجابة عن هذا السؤال نختزل القول هنا، بأن الأمر في موضوع الإمامة لا يختلف عن التدبر في الإعجاز القرآني، ولا في إعجاز النبوة والرسالة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن العدة لا تختلف عن العدة التي يحتاجها المتدبر هناك .
ويمكننا أن نلخصها بأمرين اثنين :
أحدهما : حرية الوعي، وسلامة الرؤية الفطرية والفكرية للحقيقة، إضافة إلى الخبرة المناسبة التي تمكنه من التعامل مع هذه الآفاق الدينية .
ثانيهما : إدراك طبيعة العلاقة التي بنيت عليها الحقائق والبينات الإسلامية مع حكمة الباري (تعالى)، في كل من الخلق والتدبير، وفي التنظيم والتشريع، إذ أن هذه العلاقة هي الأساس الذي بني عليه كيان الإسلام كله، وما لم تكن للإنسان فيها رؤية مستقيمة مع الحقيقة، وواضحة الملامح والأبعاد، لا يمكنه الوصول إلى أي من الحقائق التي يريد .
أما ما وراء ذلك فهو تراث الأصفياء المنتجبين (عليهم السلام)، في أي من الأمور والأبواب التي صح عنهم مثل ذلك التراث .. في العقائد .. في الأحكام الشرعية .. في الأخلاق .. في الدعاء .. في الذود عن حياض الشريعة .. في إقامة أمر الله في هذه الأرض .. في إلقاء حججه على العباد .. في تربية الأمة .. في تقويم مسارات المعرفة الإنسانية .. إلى غير ذلك .
نعم –باختصار- لا يحتاج المرء إلا إلى إلقاء نظرة حرة واعية على آثار الإمامة في أي من هذه الأمور وأشباهها، ليدرك حدود الإنسانية القاصرة أمام عظمة الاصطفاء الرباني في تجلياته الكبرى، بالرغم مما ووجهت به الإمامة وأصفياؤها (عليهم السلام)من إقصاء وتهميش، بل ومواجهة واستئصال، ولكنه نور الله الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون، ولكنها حجة الله التي شاء لها أن تكون بالغة للألباب، ولكنها كلمة الله التي أرادها أن تكون عليا .
وفي توحيد الشيخ الصدوق، وفي أصول الكافي وفروعه، وفي تحف العقول، وفي كتب الدعاء، بل وفي كل مصادر حديث أهل البيت (عليهم السلام)وسيرتهم، شواهد قائمة على إعجاز الإمامة وأصفيائها المنتجبين (عليهم السلام).
ونلتفت هنا -كما التفتنا سابقاً في ملاحظتنا لتراث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)- إلى أن المقصود من التراث هنا هو ما ثبت عن أولئك الأصفياء لا كل ما نسب إليهم، وبسبب ما ذكرناه من الحيف الخاص للتاريخ مع هذه الصفوة المطهرة، فمن الطبيعي أن يكون الموقف معهم أدق من الموقف مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومع كل ذلك ففي العودة إلى شواهد القرآن، ودلائل الحق في بيناته يتضح الكثير من الخلل، وتستبين الكثير من الحقائق وكما أشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) في حديثه السابق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
(1) الوسائل – ب : 9 من أبواب صفات القاضي – ح :10.