من أصول التحقيق في الوقائع التأريخية
• السيد محمد حسين العميدي
إن العلوم البشرية مع اختلافها وتنوعها يجمعها جامع واحد، وهو أنّ لكلّ علم منها أصول ومبادئ للبحث والدراسة يتناسب معها, ونقصد بذلك أن هنالك أسسا يعتمد عليها كل علم نسمّيها أصول العلم, فمثلا للفقه هنالك أصول تسمى أصول الفقه, وللعقائد هنالك أصول مثل علم المنطق واللغة والتفسير والرواية، والعلوم الطبيعية كالفيزياء تعتمد على الرياضيات، فتعتبر الرياضيات أصولا لعلم الفيزياء، والفيزياء والرياضيات أصلان مهمّان في علم الفلك وهكذا.
إذن لكلّ علم هنالك أصول ومبادئ يعتمد عليها, وأصول العلوم وطريقة البحث تختلف من حيث درجة الدقة المطلوبة, فمثلا عند تصميمنا مروحة هوائية صغيرة ليس كتصميم مروحة لمحرك الطائرة النفاثة، من ناحية دقة الاعتبارات في الطائرة النفاثة، وأيضا نجد أن العلوم التي تتعامل بالمسافات المكانية بعضها يتعامل بالكيلومترات وبعضها بالمليمترات وبعضها أدقّ من ذلك وبعضها أعظم بحيث لا يعترف الا بالسنين الضوئية كمسافة تدخل في مجال بحثه.
ومن هذا الباب نجد أن المسلمين قد تعاملوا مع بعض العلوم بدقة متناهية وما زال باب البحث فيها مفتوحا كما في الفقه وأصوله, لأن أثر العلوم الفقهيّة هو تحديد الأحكام الشرعية، وهي مفصل مهمّ في تحديد الثواب والعقاب في الآخرة فإما ثواب خالد وعقاب خالد، ولهذا اهتمّ المسلمون بهذا العلم وجميع لوازمه.
بينما نجدالأمر في علم التأريخ أو قُل الوقائع التأريخية يعتمد على القرائن والظواهر المحفوفة بالواقعة التأريخية المعينة بسبب انعدام التوثيق الدقيق, وبكل تأكيد كلنا نجزم ونقطع أنه لا يوجد تسجيل (فيديوي) يظهر بالصوت والصورة، ويوثق كل ما جرى من حوادث تأريخية في عصور التأريخ المختلفة، ليحكي لنا جميع تفاصيل تلك الوقائع ومن جميع الزوايا، لأننا نجد أن هذا غير حاصل في زماننا، لأكثر الحوادث التي تجري في بقاع العالم المختلفة، مع التقدّم التقني والتكنولوجي وتطورهما، فكيف نتصور الحالة في ذلك الزمان السحيق الذي يفصل بيننا وبينه قرابة الخمسة عشر قرناً.
وعليه فكثير من الحوادث التي جرت في العصر الإسلامي الأول لم تنقل بكمالها وتمام تفاصيلها وإنما نُقلت في الجملة، مع التركيز على بعض عناصر الواقعة وتناول غيرها بشيء من الإجمال، وإغفال البعض الآخر من عناصرها. وشدّة التفصيل أو الإجمال لكلّ واقعة يعتمد على عوامل عديدة، والبحث في هذا الموضوع طويل ودراسته عميقة، ونحن نكتفي بذكر النقاط المهمّة التالية:
النقطة الأولى:
كلما كانت الحادثة المعينة التي نريد البحث عنها تتفق مع توجهات الحاكم، والسلطان، أو الدولة في عصر وزمان الحادثة، وتوجهات الحكم العامة، فإنها ستكون مشبعة بالتفاصيل وغنيّة بالوثائق والمعلومات, وهذا تقريبا بديهي باعتبار أن أجهزة السلطان ودولته ستساهم وتساعد في حفظ هذه الحادثة وستسمح لكل من يريد تدوين وتوثيق هذه الحادثة بتوثيقها، وبالتالي ستتعدّد مناشيء وطرق نقل هذه الواقعة وتحفظ بشكل أشبه بالكامل والدقيق.
وكلما كان العكس حدث العكس, وهذا أيضا بديهي باعتبار أن الحاكم أو السلطان سيضيّق ويحاسب ويعاقب كلّ مَن يحاول توثيق هذه الحادثة، بل سيعمل على توجيه هذا الحدث بالاتجاه الذي يخدمه ويصبّ في مصالحه ولو على حساب تشويه الحقيقة وتزييف الواقع لصالح جهة معينة على حساب جهة أخرى وهكذا جرى الحال في تاريخنا.
النقطة الثانية:
نجد أن بعض الوقائع التأريخية تصبح مشهورة، وذلك لأنها حال وقوعها أو بعد ذلك تنتشر بين أفراد المجتمع ولو مع غياب بعض التفاصيل والجزيئات, فإن هذه الوقائع تظهر في تراث هذا المجتمع وعلى مرّ العصور من خلال أدبيّاته وغير ذلك من موروثات الناس، وعندما نجد ان واقعة معينة قد انتشرت بحيث تملأ الكتب المتنوعة لا نستطيع أن ننكر حصول هذه الواقعة، إلاّ بعد تحقيق دقيق وطويل، بحيث نعلّل ونبرّر تضافر الأخبار المتنوعة بوقوعها.
النقطة الثالثة:
إنّ لكلّ حادثة لوازم تحدث معها, بمعنى آخر، أن كثيراً من الحوادث ينتج منها حوادث أخرى وأمور ملازمة لها وتفاصيل ترافق حدوثها, ومع منع السلطان أو الدولة من نقل هذه الحوادث في الكتب، لمنع انتشارها في داخل المجتمع، فقد يتحايل بعض المؤرخين ممّن يتوق لذكر هذه الواقعة الى ذكر تلك النتائج أو اللوازم للحادثة، مع عدم التصريح بها عينا, فنجد في بعض الكتب التأريخية ذكر اللوازم وشيء من نتائج تلك الحادثة التي منع من ذكرها الحاكم أو السلطان أو الدولة.
النقطة الرابعة:
إنّ انتشار خبر معين بشكل كبير ومتواتر داخل المجتمع يجعل من الصعب على المؤرخين والرواة الموالين للسلطان أن يغفلوه بالمرة, فنجد أن الحادثة تُذكر بشكل أو بآخر، ولو بذكر مقدماتها دون إكمال تفاصيلها، أو بذكرها بشكل مجمل، أو بذكرها منسوبة الى المجهول، دون تحديد بعض التفاصيل، ولكن مجرّد ذكر الموضوع كشيء حاصل وواقع ولو مع قلّة التفاصيل ـ مع ملاحظة موالاة هذا الكاتب أو المؤرخ للحاكم أو الدولة ـ يعتبر وثيقة مهمّة، لأنه ما اضطُرّ لتثبيت هذه الواقعة إلاّ تحت ضغط انتشارها وتدوالها بشكل واسع، يمنع من اغفالها، أو أنه يريد بذكرها الإجابة على ما انتشر بين الناس ويحاول الدفاع عن مَن قام بالأمر، ولومن باب تهميش الواقعة أو التخفيف من وطأتها، أو الاعتذار لمن قام بها، أو تكذيب بعض تفاصيلها، أو نسبة الموضوع الى مجهولين أو غير ذلك من أساليب تخدم هذا الغرض.
وعليه فلابدّ ان نأخذ كلّ ما تقدّم بنظر الاعتبار، وندرس الأمر بتأن وصبر حتى نعرف كيف نستخرج الوقائع التأريخية، مع قدم زمانها واختلاط أوراقها ومحاولة من يحاول طمس آثارها, وليكن في حسباننا أنّ كلّ ما تقدّم كان بالميزان والمقياس الدنيوي المادي، وبعد ذلك ـ إن لم يكن قبله ـ لابدّ من عقيدة صحيحة لمن يؤمن بالله تعالى وحكمته ولطفه من أن يعتقد أنّ الله تعالى له اليد العليا في إظهار الحقائق بالقدر الكافي في كلّ زمان ومكان ممّا يثبت الحجة على الناس ويمنعهم من الاعتذار الوهمي من عدم حضور كل ما جرى في الأزمنة الغابرة. وخاصة فيما يتناول الوقائع المرتبطة بأنبيائه وأوصيائهم (عليهم السلام) ومن يرتبط بهم, وخاصة في مظلومياتهم وفضح مَن ظلمهم, ونجد أنّ تقادم القرون لم تمح من سيرة الأنبياء وقصصهم وما جرى عليهم.