السياحة الدينية وسبل تطويرها.. كربلاء أنموذجاً
صباح الطالقاني
تشير الأرقام الخاصة بأعداد الزائرين الداخلين الى العراق لأجل السياحة الدينية بعد التغيير عام 2003 الى حالتين متناقضتين، فمن جهة ان هذه الأعداد تشهد تزايداً مضطرداً كل عام وصولاً الى أرقام مليونية، ومن جهة ثانية يلاحظ المتتبع ضعف مستوى البنى التحتية للأماكن التي يقصدها الزائرين وخاصة في المدن المقدسة، حيث يبدو عدم الاهتمام من الجانب الحكومي في استثمار السياحة الدينية لتحقيق مستويات جيدة من النمو والتطوير والانتعاش الاقتصادي.
وإذا ما سلّمنا بأن الانتعاش الاقتصادي يُعد مرحلة من مراحل دورة الأعمال في أعقاب الركود الاقتصادي ومن خلاله يستعيد الاقتصاد ذروة العمل، فإننا نجد من المناسب التذكير بحالة الركود التي كانت تشهدها الأماكن المقدسة فيما يخص استقبال الزائرين والاستفادة من توافدهم إبان حكم النظام السابق في العراق.
لقد كانت المرحلة السابقة محكومة بالتوجه والارادة السياسية التي حدّت كثيراً من عملية فسح المجال لملايين الزائرين الراغبين بزيارة الأماكن المقدسة بناء على معطيات عدم الاستقرار في العلاقة مع الدول التي يرغب رعاياها بالزيارة.
وبعد سقوط النظام السابق والتغيير الذي حدث عام 2003، شهدت هذه المسألة انفتاحاً كبيرا غير مسبوق منذ تأسيس الدولة العرقية الحديثة عام 1921م، حيث تصاعد مؤشر أعداد الداخلين للمدن الدينية بدءاً من زيارة كربلاء في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) عام 2004 بأعداد تجاوزت 3 ملايين زائر، والى عدد الزائرين في الأربعينية المنصرمة عام 2018 والذي بلغ أكثر من 15 مليون زائر محلي وأجنبي، وفق ما ذكره موقع العتبة الحسينية الرسمي، ثم المعدل المقارب للرقم الاخير لأعداد الزائرين في عامي 2019 و 2020 رغم تحديات جائحة كورونا.
ان هذه الأرقام الكبيرة حتى على مستوى السياحة العالمية، تمثل رافداً حيوياً للنمو الاقتصادي على مستوى الدخل القومي للدولة إذا ما تم استخدامها بصورة مثلى.
لكن توظيف السياحة الدينية والاهتمام بها وتطويرها لخدمة النمو وتحريك عجلة الاقتصاد لا يتم تطبيقه واقعياً لعدة أسباب ما زالت الحكومات المحلية تتذرع بها منذ 17 عاماً، وتتوزع الأسباب ما بين قلّة التخصيصات المالية بسبب توجيه امكانيات الدولة نحو مكافحة الارهاب والحرب على تنظيم داعش، وما بين اجراءات التقشف التي تبعت انهيار اسعار النفط، والإجراءات البيروقراطية وقصور قانون الاستثمار، وشبهات الفساد التي أخذت تطال أغلب المشاريع، مضافاً اليها قلّة الخبرات في شركات الإعمار والبناء وعدم الاستعانة بالشركات الأجنبية المتخصصة..
وفي ظل هذه الظروف المعقّدة، استطاعت العتبات المقدسة بإمكانات ذاتية ومساعدة محدودة من الحكومة أن تردم بعض من هذه الهوّة المتّسعة بين الواقع والطموح فيما يخص ايجاد ركائز ومقومات للسياحة الدينية، وتطوير للبنى التحتية والموارد البشرية، حيث كان للعتبات المقدسة في كربلاء دور كبير في اقامة المشاريع الخدمية التي تهدف لراحة الزائرين وتقديم الخدمات المتنوعة لهم، فضلاً عن تبنيها لمشاريع صحية وتعليمية وتربوية وإعلامية، وصولاً الى إقامة مشاريع زراعية ومراكز تنمية بشرية وإرشاد ورعاية أُسرية، حين لم تجد مبادرات حكومية توازي ذلك التعاظم في القيمة المكانية للمدينة المقدسة.
وتبرز في كربلاء مشاريع مهمة يلمس المتتبع من خلالها تحولاً جذرياً في النظرة السائدة عن المدن المقدسة بأنها فقط أماكن للعبادة، فقد نفذت العتبة الحسينية المقدسة سلسلة من مشاريع متنوعة تهدف لخدمة السياحة الدينية من جهة، وخدمة وتنمية المجتمع المحلي من جهة ثانية>
وعلى سبيل المثال الذي يتعلق بمدينة كربلاء المقدسة فقط، أنشأت العتبة الحسينية:
- ثلاث مدن للزائرين في مداخل مدينة كربلاء الرئيسية، تحتوي على كافة المرافق الخدمية والصحية، ويجري الاستفادة منها في مبيت الزائرين وخاصة في الزيارات المليونية، وتوفير خدمة فندقية بأسعار مدعومة وقاعات لإحياء المناسبات وإقامة الفعاليات الثقافية والعلمية المختلفة، فضلا عن الاستفادة منها في اجراءات الحجر الصحي لمصابي كورونا طوال العام الماضي.
- أربع مستشفيات كبيرة تقدّم خدمات صحية مدعومة وبأفضل المواصفات العالمية، من ناحية التجهيز الطبي واستقدام الكوادر الطبية المتخصصة من أنحاء العالم وبأسعار تنافسية..
- مطار كربلاء الدولي، الجاري تنفيذه بالوقت الحاضر.
- معهد لمعالجة مرض التوحّد، يعد الاول من نوعه في العراق من ناحية الحجم والاستيعاب والتخصص الدقيق، وإنشاء معاهد أخرى مماثِلة في عدد من المحافظات.
- سلسلة من مؤسسات التعليم تبدأ بمدارس رعاية الأيتام، ورياض الأطفال والمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ومعهد تعليم المكفوفين وضعاف البصر، وصولاً لإنشاء جامعتَي الوارث والزهراء اللتان تستقطبان الطلبة من داخل العراق وخارجه.
- دار القرآن الكريم، ومدرسة الإمام الحسين الدينية ومعاهد الدراسات الدينية، وقد تم تسجيل مئات من الطلبة فيها من داخل البلد وخارجه.
- مزرعة للمحاصيل الحقلية على مساحة 1000 دونم، وأخرى لإكثار النخيل بمساحة 400 دونم، ومجموعة من المشاتل الزراعية، ومحطات لتربية المواشي وسلسلة من حقول الدواجن وبحيرات الأسماك، ومحطات مجانية عديدة لتحلية وتعقيم المياه في أحياء ومناطق متفرقة من المدينة ومداخلها..
- مشروع صحن العقيلة، الذي يجري إنشاؤه على مساحة 52 ألف م2، تضم نفقين لمرور السيارات ومضيف ومكتبة ومتحف، وسوق يتم إعادة بنائه، وأماكن استراحة مزودة بكافة الخدمات..
- سراديب أُنشأت وأخرى قيد الإنشاء داخل الصحن الحسيني، توفِّر أماكن اضافية للزائرين بمجموع مساحة يبلغ 4000 م2 .
10-مراكز متخصصة لرعاية الشباب والاطفال والفتيات، وأخرى للتنمية البشرية، ومراكز للبحوث والدراسات وحفظ التراث ومعالجة المخطوطات.
11-أسطول نقل داخلي مجاني خاص بالمدينة القديمة والعتبات المقدسة، ومثلهُ لخدمات السياحة خارج محافظة كربلاء بأسعار مناسبة مقارنة مع القطاع الخاص.
12-وآخر هذه المساهمات الكبيرة هي تبنّي العتبة الحسينية لإنشاء مراكز شفاء خاصة بمصابي جائحة كورونا داخل كربلاء وفي العاصمة بغداد وكذلك في عدة مدن اخرى حتى بلغ عدد تلك المراكز 12 مركزاً.
ومن جانب التذكير، وفّرت العتبة الحسينية بالتعاون مع الحكومة مراكز لإيواء النازحين الذي فرّوا من مناطقهم حين اجتاح تنظيم داعش شمال وغرب العراق عام 2014، فقد تبنّت العتبات المقدسة عملية إيواء النازحين وتجهيزهم بكافة الاحتياجات الضرورية لفترة عام تقريباً، ريثما تحررت مناطقهم وعاد أغلبهم اليها، في حين بقيت عدة مئات من العوائل في كربلاء بحالة شبه استقرار.
لقد أدى هذا التوجه لأن تتحول المحافظة الى منطقة جاذبة للاستثمار وخاصة في قطاع الفندقة ومراكز التسوق والمشاريع الصناعية، حيث تفيد آخر احصائية بوجود نحو 500 فندق سياحي في المدينة 100 منها تحت التأسيس، حسب تصريح رئيس رابطة الفنادق والمطاعم السياحية في كربلاء. مضافاً الى ذلك مشاريع صناعية متنوعة ما بين نسيجية ومعدنية وإنشائية وكيماوية وغذائية بلغ عددها 593 مشروعاً، على ما ورد في تقرير للمديرية العامة للتنمية الصناعية.
وفق هذه المعطيات أصبحت كربلاء محطة مهمة للجذب السكاني وفرص العمل التي يبحث عنها الآلاف من العاطلين من أنحاء وسط وجنوب العراق والعاصمة.
ان امكانية استثمار السياحة الدينية بالشكل الأمثل والمستوى الذي يحقق التكامل مع جهود العتبات المقدسة في كربلاء - كنموذج - ترتبط بعوامل عديدة من أهمها:
1-سعي الجهات الحكومية المعنية لوضع استراتيجية لتطوير متكامل للبنى التحتية على مستوى المحافظة وليس المدينة فقط.
2-تحويل الاموال المستحصلة من تأشيرات الدخول لدعم مشاريع تطوير المحافظة.
3- ايلاء كربلاء اهمية اكبر من حصة موازنة الأقاليم.
4-تأسيس لجنة عليا للزيارات المليونية وفق رؤية مشتركة ما بين السلطات الرسمية والعتبات المقدسة، لتذليل العقبات التي تعترض انسيابية هذه المناسبات وإظهارها بصورة حضارية مثلى.
5-الحفاظ على هوية المدينة التراثية من الناحية العمرانية، من خلال وضع القوانين البلدية التي تحد من التهجين الحاصل في العمران والبناء بالشكل الحالي، والذي طغت فيه العمارة الأجنبية بشكل لافت بحجة التطوير والتحديث.
6-معالجة مشكلة (العشوائيات) التي تتقاطع بشكل كبير مع التخطيط العمراني للمدينة وأطرافها، حتى أصبحت واقعاً مؤلماً يحول دون تنفيذ أية مشاريع عمرانية او خدمية جديدة.
7-الاستفادة من تجارب المدن الدينية العربية والأجنبية الناجحة، من خلال عقد الشراكات والتوأمة وتبادل الخبرات.
8-تحفيز وزارة الثقافة والسياحة والآثار لرعاية شواخص الآثار والتراث، وهي عديدة في كربلاء وتعاني من الإهمال الواضح، فهناك آثار تعود لعصور ما قبل الإسلام وشواخص تراثية هامة تمثل ثقافة المدينة الدينية والحضارية لأكثر من 1000 عام، فضلاً عن الحاجة الماسّة لتطوير برامج الدعاية والترويج للسياحة بشكل عام..
9-تحفيز وزارة الخارجية للسفارات العراقية في دول العالم من اجل الترويج ودعم السياحة الى العراق، وتسهيل الحصول على تأشيرة الدخول دون اجراءات معقدة او وساطات تكلّف مبالغ إضافية وتوحي بشبهات وشعور بعدم الطمأنينة.