المرجع السيستاني... صوت الحكمة في عاصفة العراق

: حسين النعمة 2025-05-31 06:43

في مشهد عربي طالما علا فيه ضجيج السياسة وصليل السلاح، ووسط عقدين من العواصف التي اجتاحت العراق وأزاحته عن سكونه التاريخي، برز صوت واحد ظل ثابتا على مقام الحكمة… صوت المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، ذلك الرجل الذي لم يرفع صوته يوما، لكنه هزّ بصمته ضمائر الساسة وغيّر مجرى الأحداث.


منذ سقوط النظام في عام 2003، كانت أعين العراقيين، بل وعيون المراقبين الإقليميين والدوليين، تتجه إلى النجف، حيث يقيم الرجل الذي لا يملك جيشا ولا حزبا، لكنه يملك من الرصانة والتأثير ما جعل أقوى القوى تحسب كلماته قبل أن تنزل من محراب الصمت إلى منابر البيان.

لم يكن السيستاني يمارس السلطة السياسية، لكنه أعاد تعريف السياسة بمفهومها الأخلاقي. دعا إلى دولة مدنية يحتكم فيها الناس إلى صناديق الاقتراع لا إلى سبطانة البندقية. وعندما اشتدت المحنة وتهاوت المدن أمام زحف الإرهاب، لم تكن فتواه الشهيرة بـ"الدفاع الكفائي" سوى وثيقة إنقاذ، لا لتحويل الدين إلى سلاح، بل لتحويل الدفاع إلى مسؤولية جماعية منضبطة.

لقد امتاز السيستاني بقدرة نادرة على قراءة اللحظة التاريخية دون أن يتنازل عن ثوابته الدينية والروحية. وحين كادت البلاد تنزلق إلى هاوية الطائفية، كان صوته فوق المذاهب، يقول: "لا تقولوا إخواننا السنة، بل قولوا أنفسنا..."، عبارة خالدة كتبها في دفاتر العراقيين بالحبر والدمع معا.

لم يصدر عنه خطاب سياسي متشنج، ولم يُرَ في حشد ولا محفل، لكنه صنع التهدئة في أزمنة الاحتقان، وجبر الخواطر في مواسم الانكسار. في معركة التحرير من داعش، وفي مظاهرات الشباب، وفي كل نازلة تهدد العراق، كان السيستاني حاضرا كضمير أعلى، ينطق عند الحاجة، ويسكت حين يكون الصمت أبلغ.

ولعل لقاءه التاريخي مع البابا فرنسيس في النجف عام 2021 لم يكن مجرد مشهد رمزي، بل علامة فارقة في خطاب التسامح الديني، ورسالة صريحة بأن المرجعية الدينية العراقية ليست حبيسة أسوارها، بل شريك في ترميم الوجدان الإنساني المشترك.

السيستاني لم يصنع مجدا شخصيا، بل صنع مساحة للوطن في قلب العاصفة. كان وما يزال يمثل وجها مختلفا للسلطة، سلطة تُستمد من ثقة الناس لا من قوة السلاح. سلطة تقول للظالم: لا، وللمواطن: نعم.

في زمن تغوّلت فيه الأيديولوجيا وتصارعت فيه الطوائف، اختار المرجع الأعلى طريق الحكمة، ليكون صوته مرشدا وأبويا في عراق كاد أن يفقد بوصلته. وربما لهذا السبب بالذات، بقي اسمه يتردد في الشارع العراقي والعربي، لا كمجرد رجل دين، بل كرمز نادر للعقل الراشد في زمن الخوف.

إن السيستاني، كما تسجله الأحداث وتوثقه الأيام، ليس مجرد عالم أو فقيه، بل هو رجل دولة بصمت، ومصلح بمنطق الرحمة، ومثقف في لباس الحوزة. إنه باختصار: صوت الحكمة في عاصفة العراق.

العودة إلى الأعلى