العشائر العراقية وفتاوى المرجعية: شراكة في مواجهة التحديات الاجتماعية والأمنية

تُعَدّ العشائر العراقية واحدة من أهم ركائز المجتمع العراقي، ليس فقط بما تمثله من إرث اجتماعي وثقافي ضارب في الجذور، بل بما تقوم به من أدوار فعّالة في معالجة الظواهر السلبية وتعزيز اللحمة الوطنية. وفي ظل التحديات المعاصرة التي يواجهها العراق، برزت مرجعية النجف الدينية كقوة معنوية مؤثرة، وقد تجاوبت العشائر معها في قضايا مصيرية كان لها الأثر الكبير في ضبط المجتمع ومواجهة الأزمات.


في هذا التحقيق، نستعرض شهادات عدد من شيوخ العشائر ورجال الدين حول كيفية تفاعل العشائر العراقية مع فتاوى المرجعية الدينية العليا، خاصة فيما يتعلق بمواضيع مثل محاربة المخدرات، رفض إطلاق النار العشوائي، نبذ الإسراف، ودعم الأمن الاجتماعي.

جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي

تحدث رجل الدين الشيخ فاهم الإبراهيمي قائلاً: "الحمد لله الذي جعل العشائر العراقية جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي، وحصناً منيعاً في مواجهة التحديات والصعوبات، وإن الحديث عن دور العشائر العراقية في التصدي للأمور السلبية في المجتمع هو حديث ذو شجون، يروي تاريخاً طويلاً من البطولات والوفاء."

وأضاف الابراهيمي: "ومن أبرز المحطات التي شهدتها العشائر العراقية كانت انطلاق ثورة العشائر التي شكّلت نقطة فارقة في تاريخ العراق الحديث. هذه الثورة، التي كانت بمثابة استجابة لمجموعة من التحديات السياسية والاجتماعية التي واجهت البلاد في ذلك الوقت، انطلقت من مرجعية عليا، وكان لها الأثر الكبير في حفظ أمن البلاد واستقرارها، ورغم الإمكانيات المحدودة من حيث الأسلحة والآليات، إلا أن العزيمة والإرادة القوية للعشائر العراقية كانت كفيلة بتحقيق الانتصار".

مواقف مشرفة

وقال عميد السادة، السيد حيدر الشريفي: "المبادرات التي تقوم بها عشائرنا الكريمة هي خطوة عظيمة تعكس الموقف المشرف للعشائر العراقية في العمل على تعزيز الروابط الأخوية واحترام المبادئ العشائرية. وهذا يشمل احترام المرجعية الدينية، التي تمثل لنا دائماً مرجعية هامة في توجيه المجتمع نحو الخير والحق، أما عن الولائم، التي أصبحت للأسف وسيلة لبعض التفاخر والمباهاة في مجتمعنا، فنعلم جميعاً أن الهدف منها في الأصل هو إظهار النية الطيبة وتقديم الدعم للأشخاص المحتاجين، ولكن في كثير من الأحيان نراها تتحول إلى وسيلة للظهور أو لإرضاء الأهواء الشخصية. وقد نبّهتنا المرجعية إلى أن هذه العادات قد تخرج عن سياقها الصحيح عندما تُستخدم في غير مواضعها، خاصة فيما يتعلق بذبح الذبائح في مناسبات مثل الزواج أو الختام، حيث من الأفضل توزيعها على الفقراء والمحتاجين بدلاً من استخدامها للمظاهر".

وأشار إلى أن "من الأمور التي لا يمكن تجاهلها أيضاً ظاهرة الجهل، التي قد تعود إلى عادات جاهلية ما زالت تؤثر في بعض جوانب حياتنا، مثل موضوع الرمي العشوائي الذي انتشرت ظواهره بين بعض العشائر، وهذا ليس إلا نوعاً من الجهل الذي ينبغي علينا جميعاً مواجهته والعمل على تثقيف المجتمع حياله."

وختم الشريفي بقوله: "دعونا نعود إلى جوهر العشيرة وأخلاقها، ونتمسك بتعاليم ديننا الحنيف الذي يدعونا إلى الصدق والعدالة والتعاون من أجل بناء مجتمع أفضل. فهذه المبادئ التي تمثل لنا مرجعية لا تشوبها شائبة، هي التي تقوّي روابطنا وتحمي مجتمعنا من الانحرافات السلبية".

مسؤولية مشتركة

وقال الشيخ ماجد سعيد الحاجي المرياني: "محاربة آفة المخدرات، التي أصبحت منتشرة بشكل مقلق في المجتمع، مسؤولية مشتركة، ونؤكد أن العشائر العراقية الأصيلة ترفض بشكل قاطع هذه الآفات التي تضر بمستقبل شبابنا، هذه العشائر متشبعة بالقيم الدينية، وتلتزم بما يرضي الله سبحانه وتعالى، من خلال الحفاظ على القيم الإسلامية الأصيلة في المناسبات الدينية."

وأوضح: "نعلن بكل قوة وتصميم عزمنا على محاربة هذه الآفة، ويكمن دور العشائر في دعم الإجراءات الحكومية والجهود المجتمعية للحد من انتشار المخدرات. وقال الله تعالى في محكم كتابه: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)، وهذه دعوة واضحة للابتعاد عن كل ما يضر بالصحة والعقل، وتحث على التمسك بتعاليم الدين الحنيف. لذلك، لا مجال لأي نوع من الولاءات التي تتعارض مع شريعة الله ورسوله".

منع إطلاق العيارات النارية

وتحدث الشيخ رياض حمد راشد المعموري قائلاً: "نؤكد أهمية توجيه المرجعية فيما يتعلق بمنع إطلاق العيارات النارية في المناسبات، سواء كانت في الفرح أو في الحزن، وقد شدّدت جميع العشائر على ضرورة الالتزام بهذا التوجيه، وأبلغنا أبناء عشيرتنا أن هذا الأمر ليس فقط غير صحيح شرعاً، بل أيضاً غير قانوني. ونحن، بفضل الله عز وجل، مستمرون في متابعة هذا الموضوع وتطبيقه على أرض الواقع".

وتابع: "وفيما يتعلق بتفشي ظاهرة المخدرات في العراق، فإننا في العشائر العراقية لا نتهاون في التعامل مع هذه الآفة الخطيرة، وقد بدأنا بعقد العديد من الاجتماعات واللقاءات التثقيفية في مضايف العشائر، وتوجهنا جميعاً لمواجهة هذا التحدي، إذ أصبح من الضروري تحذير أبنائنا من هذه الآفة التي تهدد مستقبلهم ومجتمعنا، وقد تم تبليغ الجميع، رجالاً ونساءً، بأن العراق وأبناءه يستشعرون خطورة هذا الموضوع، وأن القبائل والعشائر ستظل دائماً على استعداد لمواجهة هذه المشكلة بحزم."

ونوّه بأن "توجيه المرجعية الدينية والحكومة المركزية في استنكار هذا السلوك، ومواصلة العمل من أجل القضاء على هذه الظاهرة، أمر في غاية الأهمية، فالمخدرات لا يمكن أن تُعتبر جزءاً من تقاليد العشيرة، ولن نقبل بها أبداً، ومن يقوم بذلك فهو خارج عن الشرع والقانون، ويجب أن يُحاسب."

وشدد المعموري على ضرورة تجنب البذخ والإسراف في المناسبات، خاصة فيما يتعلق بالولائم الكبيرة، فهذه الممارسات لا تتوافق مع قيمنا الدينية والاجتماعية. وأضاف: "يجب أن نضع في اعتبارنا أن للميت حقوقاً ربانية، ويجب احترام تلك الحقوق وعدم تحميل النفس ما لا طاقة لها به، فما يحصل من بذخ وطبخ لأسباب غير مبررة أمر مرفوض، ويجب أن نعيد تقييم ممارساتنا بما يتوافق مع تعاليم ديننا الحنيف".

وقال الحسن شاكر الموسوي: "لقد كانت فتوى تحريم إطلاق النار العشوائي أحد أبرز المواقف التي لاقت دعماً واسعاً من المجتمع، حيث ساهمت هذه الفتوى في الحد من الكثير من الأخطاء الناتجة عن هذه الظاهرة، والتي كانت تؤدي إلى السفه والأضرار بالبشر والممتلكات، وكان هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي من القيم التي تمثل جوهر الدين الإسلامي الحنيف."

وأضاف الموسوي: "نعلم جميعاً أن المرجعية الرشيدة تؤكد دائماً على أهمية الاستماع إلى القيم والشرع، وقد أكدنا مراراً وتكراراً أن طاعة المرجعية لا تقتصر على فتاواها فقط، بل تمتد لتشمل جميع جوانب حياتنا. فالدعوة إلى الالتزام بالقيم والمبادئ النبيلة هي من أولوياتنا."

وأوضح: "فيما يتعلق بظاهرة انتشار المخدرات، فنحن بحاجة إلى تدخل من جميع الأطراف المعنية، وخاصة من أهل الحكمة والعقل، ويجب أن نتعامل مع هذه الظاهرة من خلال الإرشاد والتوجيه، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي حثّنا على الترتيب والتهذيب، وهذه هي الطريقة المثلى للتعامل مع المشاكل المجتمعية، لكن يبقى دور الحكومة في تطبيق القوانين وتوفير آليات الردع أمراً ضرورياً، ويجب أن يُكمل بالتوجيه التوعوي من رجال العشائر والدين، فهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع العراقي، ويمكنهم توجيه المجتمع نحو السلوكيات السليمة والابتعاد عن الآفات التي تضر بشبابنا ومستقبلنا".

ظواهر غير حضارية

وقال الشيخ شويش عبد الله، شيخ عشيرة البو عيسى القيسي من محافظة الأنبار: "هناك العديد من الظواهر السلبية التي تؤثر على أمننا الاجتماعي، فإن ما نشاهده من بعض التصرفات التي تخرج عن القيم الحضارية قد تسبب في خسائر كبيرة للمجتمع، ونحن هنا اليوم لتأكيد رفضنا التام لهذه الظواهر، ونؤكد على ضرورة التكاتف والتعاون بين جميع العشائر لنبذ العنف والنزاعات، والعمل على توحيد الصفوف بروح التعاون والاحترام المتبادل. وإن الظواهر السلبية التي تضر بالأمن الاجتماعي، مثل إطلاق النار العشوائي والممارسات غير الحضارية، يجب أن تكون مرفوضة من جميع العشائر بلا استثناء".

وأضاف: "لقد نُظّمت العديد من المؤتمرات التي هدفت إلى معالجة هذه القضايا، وكان من أهم أهدافها تعزيز الحوار بين العشائر، ومناقشة الحلول للمشاكل التي نواجهها، ومن بين هذه القضايا كانت ظاهرة المخدرات التي بدأت تنتشر بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، والتي تؤثر بشكل كبير على شبابنا."

وبيّن: "أن دور المرجعية في هذه القضية كان ولا يزال كبيراً، حيث كانت توجيهاتها واضحة دائماً في أهمية محاربة هذه الظواهر السلبية، فالمرجعية تواصل العمل على نشر الوعي بين الناس لمواجهة هذه التحديات، كما أن التعاون مع القوات الأمنية يُعد أمراً أساسياً في مكافحة هذه الآفات، ويجب أن نبقى جميعاً في تنسيق مستمر لتقديم الدعم اللازم لمؤسسات الدولة التي تعمل من أجل أمننا واستقرارنا."

وأكد: "أما فيما يتعلق بالقوانين الخاصة بمكافحة الظواهر السلبية مثل المخدرات، فنؤكد على ضرورة تطبيق القوانين النافذة بحزم، وعدم التهاون في التعامل مع هذه القضايا، فالقانون هو السقف الذي يحمي المجتمع من الانزلاق إلى الانفلات والفوضى".

وفي الختام، أشار إلى أن "الرجوع إلى المرجعية التي تُعد أساساً في تنظيم حياة البشر وحمايتها، هو أمر في غاية الأهمية. فالإسلام الحنيف يدعو إلى حماية النفس والحفاظ على أمن المجتمع، ونحن كعشائر نلتزم بهذه القيم، ويجب أن نتعاون جميعاً لرفع مستوى الوعي بين أبنائنا، والعمل بجد على القضاء على الظواهر السلبية التي تضر بوطننا وشعبنا".

مكافحة الظواهر المنحرفة

لقد أظهرت العشائر العراقية أنها لم تفقد بوصلتها رغم تعاقب الأزمات، بل ظلت على العهد مع المرجعية العليا، تشارك في إصلاح المجتمع ومكافحة الظواهر المنحرفة، هذه الروح التعاونية بين العشائر والمرجعية تعكس نموذجاً حيّاً لشراكة مجتمعية قادرة على إحداث التغيير الحقيقي، وبناء عراق أكثر أمناً ووعياً واستقراراً.


المرفقات

العودة إلى الأعلى