عمالة الأطفال .. استغاثات طفولة وحكايات يرويها الفقر

بلهجة شعبية وبروح يعصرها الفقر وبملامح تكشف عن اوجاع متراكمة يقول حسين وهو والد لأحد الأطفال الذين اجبروا على التخلي عن أحلام طفولتهم للالتحاق بمعترك العمل وملاحقة لقمة العيش "ماكو يوم بحياتي توقعت إن ابني يوصل لهالموقف".

ويضيف حسين مزهر علاوي وهو من اهالي كربلاء "أنا كأب حلمي أشوف ابني يعيش طفولته مثل باقي الأطفال يروح للمدرسة .. يلعب.. يضحك بس الظرف ما خلاني أختار".

ويتابع الاب سرد حكايته مع الفقر قائلاً "إحنا عائلة بسيطة بصعوبة نوفر الأكل والشرب. من سنين وأنا أتنقل من شغل لشغل مؤقت، وكل ما صار الضغط أكبر، لقيت نفسي مجبر أشرك ابني بهذا الهم .ابني يشتغل بشغل متعب، وأحيانا يشتغل لساعات طويلة هالشي يعصر قلبي خصوصا لما أشوفه يشيل أشياء أكبر من حجمه ويواجه ظروف ما يتحملها حتى الكبار بس شنو اسوي".

ويكشف حسين عما يختلج في صدره من هم ووجع تجاه ابنه مخاطباً المجتمع بالقول "أتمنى الناس تفهم إن إحنا مو قاسين على أطفالنا، بس الدنيا اللي سوت بينا هيچ مرات ألوم نفسي ومرات ألوم المجتمع اللي تركنا نحارب وحدنا، كل اللي أتمناه إن يجي يوم وأشوف ابني يكمل دراسته، ويشتغل شغل محترم ويبتعد عن هالأعمال الصعبة. بس للأسف، أحس هالحلم بعيد طالما هالدنيا مستمرة على هالحال."

علي أحمد الملقب بين زملائه في العمل (بحمد المشاغب) لحيويته وشجاعته التي تتعدى صغر سنه، له حكاية من حكايات الكثيرة التي يطاردها الفقر ويسرق منها أفراحها يقول "أنا شاب عندي أحلام هواية بس الواقع أصعب من أي حلم تخيلته، من يوم تركت المدرسة وأنا أدور شغل بأي مكان أحاول أوفر شوية حتى أساعد أهلي ونعيش بكرامتنا كل يوم أصحى من الفجر وأدخل يوم طويل مليان تعب وهموم وكل اللي أجمعه يكفي نعيش بي يومنا".

ويواصل علي حديثه عن كفاحه في جمع قوت أسرته قائلاً "شغلي صعب، مرات أحس نفسي اكبر قبل عمري ما عندي وقت أفكر بنفسي أو بمستقبلي كل اللي أفكر بيه شلون أجيب أكل اليوم وشلون أضمن احتياجات أهلي.. أشوف شباب المثل عمري يدرسون يخططون لحياتهم وأنا ملتهي بهالدوامة ما عندي خيار ثاني الظرف أقوى مني والمسؤولية تزداد يوم بعد يوم". 

ويختم علي حديثه عن أحلامه بحسرة بالقول "الحياة مو مثل ما كنا نحلم بيها صارت بس معركة يومية مرات أحس إنه تعبت وأني ما عندي طاقة أكمل بس مع هذا أتمسك بشوية أمل، كل اللي أطلبه فرصة عادلة، فرصة عيش مثل كل إنسان، أتعلم وأحقق جزء من أحلامي."

إيواء وتأهيل

Card image cap

مسؤول لجنة البحث الاجتماعي في دار الايواء لفاقدي الرعاية الاسرية التابع للعتبة الحسينية، صالح حسون كاظم تحدث عن احتضان هذه الشريحة من المجتمع قائلاً ان " المركز افتتح في يوليو تموز 2024 ويستهدف الأطفال الفاقدين للرعاية الأسرية الذين تعرضوا للعمالة المبكرة، مضيفاً "بدأنا بتشكيل فريق يضم ثلاثة من الباحثين الاجتماعيين ومسؤول المركز وقمنا بحملات مسح ميدانية شملت الأماكن العامة والمناطق القريبة من المراقد المقدسة التي تعد مركزا لتجمع الأطفال العاملين مثل بائعي التربة، المسبحة العلكة، والمناديل الورقية، بالإضافة إلى الأطفال الذين يدفعون العربات."

ويلفت الى ان "الهدف من المشروع هو ان نسعى لاستقطاب هؤلاء الأطفال وإدخالهم في برامج تربوية وتأهيلية تهدف إلى تعزيز السلوكيات الإيجابية لديهم وحل مشكلاتهم، متابعاً قوله "أغلب الأطفال الذين نتعامل معهم غير مسجلين في المدارس لذلك نعمل على إعادتهم إلى المقاعد الدراسية ومتابعتهم أكاديميا وتقليل تواجدهم في الشوارع من خلال توفير بدائل مثل تقديم منح مالية شهرية تلبي احتياجاتهم واحتياجات عوائلهم".

دوافع العمالة

ويتطرق كاظم عن دوافع العمالة بالقول "معظم الأطفال العاملين في الشوارع يخرجون بإيعاز من ذويهم بسبب العوز المالي أو عجز الأهل عن العمل وأغلب الأسر المستهدفة تعاني من الفقر المدقع أو محدودية الدخل وتسكن في المناطق العشوائية مما يجعل الطفل مصدر دخل أساسي لها وهناك أطفال يعملون فقط خلال العطلات الدراسية لكن الأغلبية يُجبرون على العمل طيلة العام بسبب الظروف المادية".

الاستراتيجيات المتبعة في احتضانهم وتأهيلهم

ويقول مسؤول لجنة البحث الاجتماعي في دار الايواء لفاقدي الرعاية الاسرية ان "احتضانهم وتأهيلهم يكون من خلال إعادة هؤلاء الأطفال إلى المدارس وتسجيلهم في مدارس اليافعين أو المدارس المسرعة، أو إدخالهم في ورش محو الأمية التي يشرف عليها مختصون تربويون ومعالجة مشكلة الأوراق الثبوتية للأطفال من خلال التنسيق مع وزارة الداخلية لإصدار المستمسكات الرسمية، منوها الى ان "هناك أطفال لديهم شهادة ولادة فقط وأحيانا يكونون مجهولي النسب، لذا نعمل على التنسيق مع الجهات المعنية لتوفير ما يلزم لإثبات هويتهم."

ويوضح ان "مشروع المركز يستهدف الأطفال حتى عمر 15 عاما وبعد هذا العمر، يتم توجيههم لمواصلة الدراسة إذا كانوا ضمن الفئة الدراسية أو يتم توفير برامج تدريبية وفرص عمل تساعدهم على تحقيق استقلالهم المالي بما يتماشى مع احتياجاتهم وتطلعاتهم."

ويمضي في حديثه عن عمالة الأطفال وما قد يكتنفها من مخاطر قائلاً "أحيانا تظهر تقارير عن وجود عصابات تستغل هؤلاء الأطفال، لكننا لم نواجه هذه الحالات مباشرة مع ذلك هناك حالات يترك فيها الأطفال للعمل بينما يكون ذووهم على علم بذلك."

كيف تنظر الشريعة الإسلامية الى عمالة الاطفال؟

Card image cap

وحول هذا الاشكال يجيب الشيخ محمد الرماحي مستهلا حديثه عن حقوق الأطفال "تعتبر ظاهرة عمالة الأطفال من القضايا الاجتماعية الملحة التي تمس حقوق الأطفال الأساسية، مثل التعليم، اللعب، والنمو السليم، وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة تواجهها بعض الأسر، قد يلجأ البعض إلى تشغيل الأطفال لزيادة الدخل، مما يثير تساؤلات حول الموقف الديني من هذه الظاهرة: هل يعتبر تشغيل الأطفال في سن مبكر انتهاكا لحقوقهم وفق التعليم الديني أو الشريعة الإسلامية؟ وكيف توازن الشريعة بين حاجة الأسرة إلى الدخل وحقوق الأطفال؟

ويسترسل الشيخ بقوله" في الإسلام، يعتبر الإنفاق على الأولاد من قِبَل الوالدين واجبا شرعيا وقانونيا. فالإسلام يوجب على الوالدين أن ينفقا على أولادهما حتى يبلغوا سن الرشد، سواء كان ذلك في المأكل، المشرب، الملبس، التعليم، الرعاية الصحية، أو أي حاجات أساسية أخرى. كل هذه حقوق ثابتة للطفل وواجبات ثابتة على الوالدين إلى أن يصبح قادرا على الاعتماد على نفسه .

وينوّه الشيخ الى حقوق الطفل بالقول "سنذكر بعض النقاط التي تفصل حقوق الطفل التي أوجبها الإسلام على والديه، معتمدين على رؤية أهل البيت، سلام الله عليهم، لأولادهم:

1. وجوب الإنفاق على الأولاد: ورد عن الإمام الصادق، سلام الله عليه: "إن الله عز وجل فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع غني، والله تعالى ذكره سائلهم عن ذلك". (الكافي، الجزء الثالث، صفحة 497). يشير هذا الحديث إلى أن الإنفاق على المحتاجين، بما في ذلك الأولاد، هو واجب شرعي.

كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله في وسائل الشيعة، الجزء 21، صفحة 489: "كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يعول." فهذا الحديث يؤكد أن الإهمال في حقوق المعالين يعتبر إثما كبيرا.

2. حق الطفل في النفقة حتى البلوغ: قال الإمام الصادق، عليه السلام: "على الوالد نفقة ولده الصغير". (الكافي، الجزء السادس، صفحة 40). 

كما ورد في نهج البلاغة، الحكمة رقم 399، عن أمير المؤمنين، عليه السلام: "حق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويؤدبه، ويعلمه القرآن".

هذه الحقوق تشمل الاحتياجات المادية والروحية للطفل، مثل توفير اسم حسن، التربية السليمة، وتعليم القرآن الكريم.

3. توفير الحاجات الأساسية: النفقة تشمل جميع الحاجات الأساسية. قال الإمام الصادق، عليه السلام: "على الرجل نفقة ولده وزوجته"، أي أن الطعام، الشراب، المسكن، الملبس، التعليم، والرعاية الصحية كلها من مسؤوليات الأب. (الكافي، الجزء السادس، صفحة 40).

4. الحقوق المستمرة في الحالات الخاصة:

إذا كان الطفل معاقا أو غير قادر على الكسب حتى بعد بلوغ سن الرشد، تستمر نفقته على والده حسب حاجته.

إذا كانت الفتاة غير متزوجة، فإنها تبقى على نفقة الأب.

 وفي الختام، يؤكد الإسلام وروايات أهل البيت، عليهم السلام، على حقوق الطفل، ومن أهملها استحق العقوبة.

كيف توازن الشريعة بين حاجة الأسرة إلى الدخل وحق الطفل في التعليم واللعب والنمو السليم؟

وبصدد هذه الإشكالية يوضح الشيخ "ان توازن الشريعة يتم بتوفير الحاجات الأساسية كالطعام، والشراب، والمسكن، والتعليم، واللعب، والنمو النفسي والجسدي. ويجب ألا يُرهَق الطفل بالعمل، ويفضل تعليمه مهنة بسيطة تناسب عمره، كما ان المجتمع والدولة مسؤولان عن دعم الأسر الفقيرة، ونؤكد على هذه القضية؛ فمن مسؤولية الدولة أن توفر للعوائل المتعثرة، للعوائل الفقيرة، والعوائل التي تحتاج إلى ضمانٍ يضمن حقوق أطفالها في التعليم، والصحة، والنمو النفسي والبدني." 

ويستطرد الشيخ الرماحي في حديثه عن كيفية التوازن بالقول "تعليم الأطفال مهنا بسيطة تناسب أعمارهم، كما ذكرنا، والاعتدال في الإنفاق وإدارة الموارد بحكمة، يساعدان في تحقيق هذا التوازن بين حاجيات الطفل وحاجيات أسرته الفقيرة".

 رسائل موجهة للجميع

وفي الختام وجه الشيخ الرماحي جملة من الرسائل الى المجتمع ليأخذ دوره في مواجهة ظاهرة عمالة الأطفال وحماية الطفولة

أولًا: حماية الطفل واجب شرعي، وإهمال حقوقه يُعتبر إثما كبيرا. كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول."

ثانياً: يجب تعليم الطفل وعدم حرمانه من التعليم. كما أوصى أمير المؤمنين، عليه السلام: "علّموا أولادكم القرآن." والقرآن، طبعا، هو سيد العلوم والخزانة الكبرى للعلوم. فالتعليم واجب على المجتمع.

ثالثا: التكافل الاجتماعي، يجب على الأغنياء دعم الفقراء لتجنب إجبار الأطفال على العمل. ولو كان الدعم جيدا للعوائل، لما اضطروا إلى تشغيل أطفالهم وإبعادهم عن مسار التعليم وحياة الطفولة.

رابعاً: اللعب والنمو السليم. كما قال النبي، وذُكر ذلك كثيرا في روايات أهل البيت، عليهم السلام: "دعه سبعا." أي أن هذه السنين ضرورية لنشأة الطفل في حياة مستقرة. الطفل الذي يُكبَت في هذه الفترة ويُجبَر على العمل ينشأ مع إعاقات نفسية. وقد يؤدي هذا إلى ظهور عقد نفسية في المستقبل لدى هؤلاء الأطفال الذين حُرِموا سنوات الطفولة. وبالتالي، يبتعدون عن الدين والإنسانية وكل ما يمت للإسلام بصلة.

خامساً: عقوبة الإهمال. ذكرنا أن إهمال الأطفال له عواقب وخيمة. كما حذر النبي صلى الله عليه وآله: "من ترك ولده صغيرا، فعقّله الله يوم القيامة."

سادساً: دور المجتمع والدولة. يجب توفير برامج دعم للأسر الفقيرة لضمان حقوق الأطفال. وهنا ندعو وزارة العمل والشؤون الاجتماعية للتوجه بشكل قوي لدعم الأسر الفقيرة وفتح مشاريع مناسبة لهم. يمكن دعمهم ببعض الآليات البسيطة والإمكانات التي تسمح بفتح مشاريع من البيت أو من خلال الإنترنت، باستخدام التكنولوجيا الحديثة، التي تُعد من أجمل وأهم وألطف المهن في وقتنا الحالي.

أخيراً: العدل والرحمة. تحقيق التوازن بين حاجات الأسرة وحقوق الطفل يعكس قيم الإسلام المتمثلة في الرحمة والعدالة.

العودة إلى الأعلى