التسوّل الرقمي والتسلّق نحو الثراء.. بين مرض الاستجداء وجمع المال والشهرة

2024-12-26 10:13

تحقيق/ حسين النعمة

كان يُعرف التسول بطلب القليل من المال، أو الطعام، أو المبيت.. بين عموم الناس؛ فهو ظاهرة اجتماعية تتخذ احدى صورتين سواء أكان التسول عرضي أو التسول بحكم التكوين، والصورة الاولى تغلب في تسوله فعل احوال خارجية من البيئة العائلية والاجتماعية وتظهر في فترات الفوضى؛ في حين ان الصورة الثانية فهو بحكم التكوين حيث ينظر علماء الاجتماع الى التسول على انه سلوك اجتماعي يناقض القيم والمبادئ ومصالح المجتمع.. أما أساليبه فكانت بين استمالة الناس بشظف المعيشة أو استعطافهم بطفل بريء او مصاب، فيما كان أكثر المتسولين ممن يوظف الاعاقة لطلب الصدقة أو من ذوي العاهات المحدثة خصيصا للتسول، وبغض النظر عن صدق المتسولين أو كذبهم، فأن عموم التسول بات ظاهرة لا يخلو مكان منها؛ وأوضح أشكالها تواجدهم على جنبات الطرقات والأماكن العامة الأخرى؛ فيما يشهد التسول شكلا متقدما باستغلال الطرقات وفرض الإتاوات في بعض الطرق المرورية حيث يلجأ بعض المتسولين إلى اقحام بعض المارة على خدماتهم التي لا حاجة لها غالبا؛ مثل مسح زجاج السيارة أثناء التوقف في الإشارات المرورية أو اجبارهم عن ابتياع المناديل الورقية او بعض الاقمشة والنساتل والمياه المعدنية وغير ذلك بذريعة العمل..

فيما كنّا نسمع في الطرقات كلمات بعضهم: «من مال الله يا محسنين»، «حسنة قليلة تدفع بلايا كثيرة» وغيرها من كلمات المستعملة من المتسولين لاستدراج عطف وكرم الآخرين؛ أما اليوم نلتفت الى تطور التسول بشكل مثير في عصر العولمة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي, ليضيف اسلوبا يكسي ظاهرة التسول شكلا جديدا لم يعتد علي أجيال الماضين.. وهو ما اسميه بالتسول الالكتروني بتوظيف المتسول لمواقع التواصل الاجتماعي وخصيصا تطبيق التيكتوك الذي يعتمد على المقاطع الفيديوية المسجلة والمباشرة وذلك باستخدام المتسول لهذه المقاطع وما تحتاجه من ادوات واجهزة وإنارة ليخرجها وينتجها للأخرين وفق اساليب الاستجداء المعتادة بين الاستمالة والاستعطاف وشكل اخر نحصره بين التملق والإغراء لجمع الهدايا والاموال التي تتجاوز ملايين المرات مما يجنيه المتسول عند اشارة المرور..

عصر التسول الالكتروني.. مافيا العولمة

التسول عبر مواقع الإنترنت بات ظاهرة اوسع من التسول التقليدي الذي يقوم به البعض في الشوارع والحافلات؛ لكن ميزة التسول عبر الإنترنت هي أن المتسول في احيان كثيرة مجهول الهوية، فلا يمكن معرفة اسمه الحقيقي أو سنه أو مكانته الاجتماعية، وهذا الأمر يجنبه الخزي والعار الذي قد يلحق بالمتسولين التقليديين.

ويلمس المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي ان هناك ظاهرة شائعة بين مرتادي منصات التواصل الاجتماعي أنهم يحبون دائما قراءة التعليقات، سواء على المنشورات أو الصور، وبالأخص على فيديوهات يوتيوب التيكتوك، وإذا كنت من المهتمين بقراءة التعليقات ربما صادفك ذات مرة تعليق مثل: "أرملة فقدت زوجي في الحرب ولدي سبعة أطفال يُرجى مساعدتي على رقم…"، أو قابلت مَن يحاول إثارة تعاطفك أكثر بذكر سوء حلَّ به، كأن يقول مثلا: "إنه شخص لاجئ في بلد ما فقد ابنه في الحرب ولا يريد فقد أطفاله المتبقين، كما أنه طُرد من عمله لأن مديره يكره العرب أو المسلمين"، وعشرات التعليقات ان لم تكن مئات تبث في قلبك الغضب تجاه العالم والطريقة التي يُدار بها، كما أنها تثير الغرائز الإنسانية خصوصا لو كان الفرد من ضحايا الحروب.

وأمر آخر قد يثير غضبك على العالم أكثر هو أن معظم هؤلاء الأشخاص - تحديدا أولئك المجهولين الذين يبثون هذا النوع من التعليقات على مواقع التواصل- محتالون موهوبون في احتيالهم، على سبيل المثال ضُبِط شخص بحساب وهمي عبر الإنستغرام منتحلا هوية إحدى الشخصيات الشهيرة، ويطلب مبلغا لمساعدة أسرة فقيرة، أو حساب وهمي لمنظمة انسانية أو حساب تجاري غير موثق لتقديم بعض الخدمات المصرفية أو غيره من مئات هذه الحسابات، والملفت أن هذا الاحتيال أصبح فنا يمارسه ويطبقه مَن يريد التسلق نحو الثراء بدون تعب، حتى إنه أصبح مهنة ينقصها فقط التسجيل في بطاقة الهوية.

اساليب التسول الرقمي

وتحدث عن اساليب التسول الرقمي الإعلامي صباح الطالقاني، مشخصا إياها بقوله: "ان التسول الرقمي بات يستخدم الحيل الاكثر شيوعاً على وسائل التواصل الاجتماعي والتي اوجزها: بأساليب الاحتيال الالكتروني عن طريق الارقام الاجنبية، فعادة ما تتم عملية الاحتيال من خلال اكتساب ثقة المستخدمين ثم التجسس على مواقعهم لمعرفة اهتماماتهم وافكارهم بغية معرفة استراتيجية طلب المساعدة المالية او الوعد بتقديم الاموال لاستدراجهم".

وأضاف كذلك "الاحتيال في الشؤون الانسانية (الاعمال الخيرية) من خلال ارتداء الحالة الانسانية فيتم التلاعب بمشاعر الناس والاحتيال عليهم عن طريق جمع المبالغ بإسم الانسانية والاعمال الخيرية، وايضا الكمين (الدفع الالكتروني)، حيث يعتمد اللصوص على اسلوب فبركة الصفحة الالكترونية بشكل غير قابل للشك، ومن خلال ذلك يتمكنوا من الاطلاع على ارقام ورموز البطاقات ومن ثم سرقة الاموال".

ونوه الطالقاني "المتصفح الجيد يستطيع تميز المواقع الالكترونية الوهمية، وهي شكل جديد يستخدمه المتسولون لجذب المتابعين لشراء منتوجاتهم وبعد ذلك يسرقون اموالهم اعتمادا على الاسلوب الذي سبق ذكره".

شحّات رقمي..

في تجولنا المعتاد في ازقة الصحافة وجدت زميلا يعطي مثالا في تغريدة له على تطبيق تويتر كتب فيها (التسول الرقمي سُلم الى الثراء) ونقد شيوع التسول الرقمي في العالم حيث نقل أن طالبا ما في بروكلين، يقضي أيامه في طلب تبرعات من الغرباء على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الآن غارق في عطايا الآخرين!؟.. وفي الوقت نفسه نجد أن الكثير من مشاهير تطبيق التيكتوك ان وضعنا منشوراتهم الفيديوية في خانة الاستمالة والاستعطاف أو التملق والإغراء فأنّهم شحاتون رقميون مع امتياز الشهرة بالتفاهة والاستخفاف بعقول الاخرين.

المشرّع الديني: التسوّل مفتاح الفقر.. والشُهرة تَئِد الحياء

مما أوصتنا بها الشريعة المحمدية الاصيلة هو الحياء نظرًا لما للحياء من مزايا وفضائل؛ فقد أمر الشرع بالتخلق به وحثَّ عليه؛ بل جعله من الإيمان، ففي الصحيحين: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".. فيما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "الحياء سببٌ إلى كل جميل"، وقال ايضا (عليه السلام): "أحسن ملابس الدنيا الحياء"، فيما قال (عليه السلام) عن التسول: "الْمَسْأَلَةُ مِفْتَاحُ الْفَقْر" وقال (عليه السلام) أيضا: "الذُّلُّ فِي مَسْأَلَةِ النَّاس"، وبعد أن أكد المشرع أن التسول مفتاح الفقر وأنه ظاهرة سلبية وسيئة ولها تأثيرات سلبية كثيرة على الفرد والمجتمع، وأنه لغير المحتاج حرام وللمحتاج ذلٌ وحقارةٌ وله آثار سيئة خطيرة، جاءت الشهرة عنصرا محفزا لتجارة التسول الرقمي فوئدت الحياء.. وجعلت غشاوة على عين الإنسان بأنه لا ينبغي ان يتسول أو يمدَّ يده إلى الناس ويطلب منهم المعونة إلا في حالات خاصة.. بينها الحسنان (عليهما السلام) حينما جاءهما رجل وهما جالسان على الصفا فسألهما لمن تحل اخذ الصدقة، فقالا: فَقَالا: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا فِي دَيْنٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ، فَفِيكَ شيء مِنْ هَذَا "؟.

مواقع التواصل وسيلة للتسوّل

انتشار هذه الظاهرة السريع في المدة الأخيرة دفع وزارة الداخلية إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات لمواجهتها والحد منها، بعد أن سجلت العديد من حالات النصب والاحتيال عبر مواقع التواصل من خلال التسول الإلكتروني؛ ويُشير مدير قسم محاربة الشائعات التابع لدائرة العلاقات والإعلام في الوزارة العميد (نبراس محمد علي) إلى أن المحتالين يستغلون عاطفة العراقيين لتحقيق مكاسب باستخدام أساليب قد تصل إلى حد الاتجار بالبشر.

وذكر العميد "أن وزارة الداخلية تعمل على معالجة الظاهرة عبر القبض على المتسولين، وتفكيك العصابات التي تتخذ من هذا الموضوع وسيلة للكسب غير المشروع".

ظاهرة التسول وسياسات المواجهة في التشريع العراقي

قد يكون الاطار التشريعي عالج ظاهرة التسول وأهم اركان تلك الجريمة طبقا لأحكام القانون العراقي في مواده الثلاث (390، 391، 392) بالحبس والغرامات المالية على ظاهرة التسول في حين أن القانــون الجنائــي يتناول الابعاد المتعلقة بتلك الجريمة يشير الدكتور كاظم عبد الله المياحي في دراسته الموسومة: (ظاهرة التسول وسياسات المواجهة في التشريع العراقي) الى صعوبات اثارها التسول ومدى ملاءمة نصوص القانون العقابي التقليدية بهدف اســتيعاب المتعلقة بتلك الجريمة، وكافــة صــور التســول، وبخاصــة فــي العصــر الحالــي التــي ظهــرت نتاجــا ً للتطــور التقنــي والتكنولوجــي الــذى يشــهده العالــم..

ويؤكد المياحي أن التسول هو نوع من الحياة الخاملة ويعدُّ صاحبه خطرا علــى الامــن وصالــح المجتمع؛ ويشير الى ثمة علاقة وتمييز للتسول بغيره من الجرائم، حيث يركن الى ان لظاهرة التسول ابعادا كثيرة منها ما هو جغرافي واجتماعي وأمني وينوه عن الخطورة التي تكمن في تظافر هذه الابعاد بعضها مع بعض الاخر حيث يلاحظ ان تطور ظواهر وقرائن متعددة ارتبطت بالتسول غير استجداء المال او بالإضافة له؛ كما ينوه عن مجتمعات تفترض أن الاعاقة والتسول مرتبطان حتما في جميع الادبيات؛ وهنالك ارتباط قوي بين الفقر والعجز والتسول.

ويوضح المياحي في دراسته ان التسول جريمة له ركن مادي واخر معنوي، يقول في الركن المعنوي لجريمة التسول وجزاءه: "ان جريمة التسول من جرائم القصد الجرمي العام ويلزم القصد الجرمي العام توافر عنصري (العلم والإرادة) حيث يلزم ان يعلم الجاني بان فعله يتمثل في التسول والاستجداء كما يتعين ان تتجه ارادته الى ذات الفعل لتحقيق النتيجة الجرمية التي حصلت من ذات العمل او الفعل المادي والمتمثلة على طلب المال او كسوة او طعام وغيرها.."؛ ويقول في الجزاء المقرر لجريمة التسول: "أن المشرع العراقي عاقب جريمة التسول او المحرض على ارتكابها حيث تتمثل الاتجاهات العقابية تجاه تلك العقوبة بالنسبة الى الشخص البالغ في قانون العقوبات العراقي المنصوص عليه في المادة (390) من ذات القانون بانه من الجرائم البسيطة وتندرج ضمن احكام المخالفات حيث تكون العقوبة المفروضة فيها هي الحبس مدة لا تزيد عن شهر، ولا يجوز التوقيف فيها استنادا الى احكام المادة (110/ب) من قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي".

مما تقدم نلاحظ ان التسول كظاهرة وان حددها المشرع العراقي كجريمة ولها جزاء في قانون العقوبات العراقي إلا انه للآن لم يعالج تطور هذه الظاهرة رقميا بالرغم من تفشيها الكترونيا بما يهدد أمن وسلامة المجتمع واستقراره، لذا لجأت السياسات الجنائية للعراق تجاه مواجهة ظاهرة التسول كونها من الجرائم التي لها اثارها السلبية على المجتمع.. لكنّها لم تشرع للآن قانونا تجاه تطور التسول رقميا، هذا ان لم نعد الابتزاز الالكتروني وجها من التسول الرقمي.

وهو ما يرجحه الخبير القانوني علي التميمي باستفحال ظاهرة التسول الإلكتروني بشكل غير مسبوق في البلاد إلى عدم وجود عقوبات رادعة لما يصفها بـ"الجرائم" في البلد، ويرى أن العراق يحتاج إلى تشريع قانون الجرائم الإلكترونية للحد من هذه الكارثة التي تتوسع في كل يوم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي كما فعلت بعض الدول التي شرعت قانون التسول الرقمي وفرضت عقوبة السجن لمدة تصل إلى ثلاثة أعوام مع غرامة مالية، بالإضافة إلى منع المتسول من دخول البلاد إذا كان أجنبيا.

بعد هذه الجولة في اهم مفاصل ظاهرة التسول الرقمي والالكتروني بما يتبين انه إحــدى المشكلات التــي تشــكل خطــرا علــى المجتمــع العراقي لمــا لهــا مــن آثــار علــى الامن الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، نقترح تضافر كافة جهود العلماء ورجال الدين والباحثين والقانونيين بتقديم ما يلزم من دراسات وتقديمها للبرلمان العراقي للتصويت عليها وعدّها جريمة تهدد المجتمع العراقي وان تسن لها عقوبات لازمة تحد من تفشيها، كما يجدر بوسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة مواجهة تلك الظاهرة، ولأهمية الحد من هذه الظاهرة على الدولة إنشاء مؤسسة اعتبارية تتولى بحث تلك الظاهرة ودراسة ابعادها على ان تضم في اقسامها متخصصين نفسيين وباحثين.. وكذلك التأكيد بأن ظاهرة التسول الرقمي من الجرائم التي لها علاقة ورابطة بالظروف الانسانية وبخاصة ان مصدر تلك الجريمة هو العوز والحاجة، لذلك يتعين اتخاذ اجراءات وقائية للحد من تلك الظاهرة، وان يمتد ذلك الامر للعقوبة المقررة لتلك الجريمة بهدف تحقيق اصلاح وتأهيل وتقويم المتسول الرقمي والمحرض له بداع تحقيق الردع الخاص.



العودة إلى الأعلى