الحجاب بين الوجوب والاستحباب- في الحديث والكتاب

كثر الجدل العقيم السقيم، والمثمر المنتج، حول موضوعٍ من أهمّ ما طُرح على بساط البحث من مواضيع، ألا وهو الحجاب.

ليس الجدل ابن الساعة واليوم، ولا ابن الشهر والسنة، بل هو ابن أعوامٍ طويلةٍ مضت، تكاد تنيف على القرن والقرنين، فالحجاب كان ولا يزال، منذ مطلع عصر النهضة، كما يسميه أهل الحداثة ومدّعو التطوّر، مصدر أخذٍ وردٍّ وقيلٍ وقال، يهاجمه قومٌ ويدافع عنه آخرون، ويتعصّب له وضدّه كثيرون، ويقف البعض على حيادٍ لا يملكون ما يدعمون أو يدحضون به هذا الرأي أو ذاك.

لكن القضية حيوية، وهي ذات علاقةٍ وثيقةٍ بالدين والتديّن، ولذا فقد كثر مناصروها من أهل الدين ومعارضوها من أهل اللا دين، أما الواقفون على حيادٍ فهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لأنهم ببعض الحجّتين مقتنعون، ولبعضهما رافضون... فهم حائرون لا يعرفون ما يصنعون!

على كل حال، ليس مقالي هذا موجّهًا إلى فئةٍ محددةٍ من أنصار الرأي أو الرأي المضاد، ولا إلى غيرهم، بل هي كلمة حقٍّ تقال في هذا المجال، أستعرض فيها ما قيل فيه وما يقال، وأعرض كلًّا منهما على ما يمليه الدين الحنيف عبر كتاب الله وسنة نبيه وأحاديث أهل البيت عليهم السلام، وما يمليه العقل والمنطق السليم، وما يحدثنا به التاريخ الجديد والمتوسط والقديم.

ولأن الحجاب مصطلحٌ فضفاض، تندرج تحته عناوين شتى، منها ما يوافق الدين ومنها ما يشذّ عنه، كان لا بدّ لنا من تعريفه أولًا، ليكون البحث قائمًا على بيّنة، فلا ينطق عن الهوى...

تعريف الحجاب لغةً: جاء في لسان العرب لابن منظور، أن الحجاب لغةً هو "السِّتْرُ، وحَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْباً وحِجاباً وحَجَّبَه: سَترَه. وقد احْتَجَبَ وتحَجَّبَ إِذا اكْتنَّ من وراءِ حِجابٍ. وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ."

أما تعريفه اصطلاحًا: "حجاب المرأة، المقصود منه منع الأجنبيّ من النظر إلى بدن المرأة، فالحجاب هو ما يكون حائلاً ومانعاً وساتراً عن النظر بغضّ النظر عن طبيعة هذا المانع."

وهنا بيت القصيد، فقبل أن نناقش مسألة وجوب الحجاب، ما لها وما عليها، ينبغي أن نعرّج على السبب الأساس الذي جعل مسألةً كهذه تأخذ كل هذا الاهتمام والتركيز من الباحثين وعلماء، والجاهلين والأشقياء، في شرق الأرض وغربها... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا استقطب حجاب المرأة اهتمام الغرب والشرق بشتى أطيافهما؟ ولماذا أثيرت من أجله هذه الضجة الكبرى، حتى غدا في نظر بعض المستشرقين والمستغربين (نسبةً إلى الغرب)، حائلًا يحول بين المرأة والتطوّر العلمي والثقافيّ والتربويّ والاجتماعي و...و...؟

هنا أجد من المناسب أن أطرح هذا السؤال على المرأة نفسها، مهما كانت هويتها وقيافتها ومظهرها ومعتقدها، لأنه أولًا وأخيرًا يخصّها ويدور حولها، ويعالج قضيةً تمسّها وتخصّها، كما هو ظاهر...

لماذا وقفت أبواق الغرب منذ مطلع القرنين الماضيين لتنفخ وتزعق بأن المرأة المسلمة مكبّلةٌ بقيدٍ هو الحجاب؟ وأنها لا يمكنها التحرّر من قيد التخلف والهمجية إلا عن طريق التحرّر (أي التخلّص) منه؟

لماذا قامت أبواق الغرب، من غربيين وعربٍ مستغربين ينعقون خلف أسيادهم، لتطبّل وتزمّر معلنةً وقوفها إلى جانب تحرير المرأة من قيد التخلّف الفكريّ، بينما هي في الوقت نفسه تقوم بتكبيل المجتمع المسلم الخارج من عبودية الجهل والتسلط العثمانيّ السابق، وربطه بقيود الاستعمار والانتداب وغيرها من المفردات الجديدة القديمة؟

وهل يعقل أن يكون قومٌ حريصين كل هذا الحرص على حرية الإنسان، المرأة تحديدًا، وفي نفس الوقت يشدون الوثاق حول مجتمعها وأهلها وبلادها؟

إن المفارقة هنا أن المرأة العصرية، وخلفها التقدميون مدّعو التطوير، قد التفتوا إلى مكائد الاستعمار العديدة، وحاولوا مواجهتها بأفكارهم الجديدة، ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أريد بمجتمعهم حقًّا من خلال مهاجمة حجاب المرأة والدعوة إلى نبذه، كمظهرٍ من مظاهر التقدّم والازدهار!

ترى هل أنهم عن جهلٍ قد أغفلوا ذلك؟ أم عن علمٍ به؟

الجواب سيكون في طيات البحث إن شاء الله، وسيفهمه القارئ اللبيب من خلال ما سيتم طرحه من حججٍ ووقائع، تتكلم عن نفسها ولا تحتاج لمن يتكلم عنها.

 


العودة إلى الأعلى